الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال رجل للجنيد بم أستعين على غض البصر فقال بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه .

وقال الجنيد إنما يتحقق بالمراقبة من يخاف على فوت حظه من ربه عز وجل وعن مالك بن دينار قال جنات عدن من جنات الفردوس وفيها حور خلقن من ورد الجنة قيل له ومن يسكنها قال يقول الله عز وجل وإنما يسكن جنات عدن الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني والذين انثنت أصلابهم من خشيتي وعزتي وجلالي إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب .

وسئل المحاسبي عن المراقبة فقال أولها علم القلب بقرب الله تعالى وقال المرتعش المراقبة مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة .

ويروى أن الله تعالى قال لملائكته أنتم موكلون بالظاهر وأنا الرقيب على الباطن .

وقال محمد بن علي الترمذي اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمة عنك واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه .

وقال سهل لم يتزين القلب بشيء أفضل ولا أشرف من علم العبد بأن الله شاهده حيث كان وسئل بعضهم عن قوله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه فقال معناه ذلك لمن راقب ربه عز وجل وحاسب نفسه وتزود لمعاده وسئل ذو النون بم ينال العبد الجنة فقال بخمس استقامة ليس فيها روغان واجتهاد ليس معه سهو ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية وانتظار الموت بالتأهب له ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب وقد قيل:


 إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب     ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفيه عنه يغيب     ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب
وأن غدا إذا للناظرين قريب

وقال حميد الطويل لسليمان بن علي عظني فقال لئن كنت إذا عصيت الله خاليا ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت وقال سفيان الثوري عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة .

وقال فرقد السبخي إن المنافق ينظر فإذا لم ير أحدا دخل مدخل السوء وإنما يراقب الناس ولا يراقب الله تعالى .

وقال عبد الله بن دينار خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرسنا في بعض الطريق فانحدر عليه راع من الجبل فقال له يا راعي بعني شاة من هذه الغنم فقال إني مملوك فقال قل لسيدك أكلها الذئب قال فأين الله قال فبكى عمر رضي الله عنه ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه وقال أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة وأرجو أن تعتقك في الآخرة .

التالي السابق


(وقال رجل للجنيد ) رحمه الله تعالى (بم أستعين به على غض البصر فقال بعملك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه وقال الجنيد ) أيضا (إنما يتحقق بالمراقبة من يخاف على فوت حظه من الله عز وجل ) ولفظ الرسالة من تحقق في المراقبة خاف على فوت حظه من ربه لا غير . اهـ .

وذلك لأن المراقبة على درجات فقد يراقب العبد أحكام ربه ليسلم من العقاب وقد يراقبها لزيادة الثواب وقد يراقبها ليرتفع عنه الحجاب وقد يراقبها ليكون من الأحباب فإذا وصل إلى هذا الحال الشريف راقب ربه وأدام نظره لما يتفضل به عليه ليسلم من الغفلات التي يفوت بسببها حظه من مولاه فمراقبته له بهذا التقدير خوفا من فوات حظه من أفضل المراقبات .

(وقال مالك بن دينار ) أبو يحيى البصري رحمه الله تعالى (جنات عدن من جنات الفردوس وفيها حور خلقن من ورد الجنة قيل له ومن يسكنها قال يقول الله عز وجل إنما يسكن جنات عدن الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني ) فتركوها (والذين انثنت أصلابهم من خشيتي وعزتي وجلالي إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب ) روى البيهقي من حديث أنس يقول الله تعالى إني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي المتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت عنهم (وسئل ) أبو عبد الله الحارث بن أسد (المحاسبي ) البصري رحمه الله تعالى (عن المراقبة فقال أولها علم القلب بقرب الرب تعالى ) أي : فإذا تم له ذلك خلص سره لله تعالى .

(وقال ) أبو محمد عبد الله بن محمد (المرتعش ) النيسابوري من أصحاب الجنيد مات ببغداد سنة 328 (المراقبة مراعاة السر لملاحظة الغيب ) فيما يرد عليك منه (مع كل لحظة ولفظة ) حكاه القشيري عن محمد بن الحسين سماعا قال سمعت أبا القاسم البغدادي يقول سمعت المرتعش يقول فذكره (ويروى ) في بعض الأخبار (إن الله تعالى قال لملائكته أنتم موكلون بالظاهر وأنا الرقيب بالباطن ) أي : العليم بسره من غير غفلة ومن ذلك قول أبي حفص لأبي عثمان فإنهم يراقبون ظاهرك والله رقيب على باطنك وتقدم قريبا .

(وقال ) أبو عبد الله (محمد بن علي ) بن الحسن بن بشر الحكيم (الترمذي ) رحمه الله تعالى من كبار الشيوخ وله تصانيف في علوم القوم صحب أبا تراب النخشبي وأحمد بن خضرويه وابن الجلاء وغيرهم وهو صاحب نوادر الأصول (اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه ) هكذا ذكره في النوادر .

(وقال ) أبو محمد (سهل ) التستري رحمه الله تعالى (لم يتزين القلب بشيء أفضل ولا أشرف من علم العبد بأن الله شاهده حيث كان ) وهذا لأنه أصل كل خير فإذا استدام ذلك صارت مراقبة (وسئل بعضهم عن قوله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه فقال معناه [ ص: 98 ] ذلك ) أي : الرضوان (لمن راقب ربه عز وجل ) في أحواله (وحاسب نفسه وتزود لمعاده ) فسر الخشية بالمراقبة والمحاسبة ولذلك جاء في الخبر كفى بالخشية علما (وسئل ذو النون المصري ) رحمه الله تعالى (بم ينال العبد الجنة فقال بخمس ) خصال (استقامة ) في الطاعات (ليس فيها روغان واجتهاد ) في المعاملة السرية (ليس معه سهو ) ولا غفلة (ومراقبة الله في السر والعلانية وانتظار الموت بالتأهب له ) بالأعمال الصالحة فكان قد (ومحاسبة نفسك ) بما عملته من خير أو شر (قبل أن تحاسب وقد قيل ) في معنى ذلك :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفيه عنه يغيب ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب
وأن غدا للناظرين قريب

وكان الإمام الشافعي ينشد هذه الأبيات كثيرا فقيل إنها له وقيل لغيره .

(وقال حميد ) بن أبي حميد يترويه (الطويل ) أبو عبيدة البصري التابعي اختلف في اسم أبيه على عشرة أقوال أشهرها ما ذكرت ثقة روى له الجماعة وفي التهذيب قال البخاري قال الأصمعي رأيت حميدا ولم يكن طويلا وقال غيره إنما كان طوله في يديه مات سنة ثلاث وأربعين ومائة وهو قائم يصلي وله خمس وسبعون سنة (لسليمان بن علي ) بن عبد الله بن عباس أحد الأشراف وعم الخليفتين السفاح والمنصور روى له النسائي وابن ماجه مات سنة اثنتين وأربعين ومائة وله تسع وخمسون سنة (عظني فقال لئن كنت إذا عصيت الله خاليا ) عن الناس (ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم ) فإنك بارزته بالمعصية مع علمك باطلاعه عليك (ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت ) إذ قد أنكرت إحاطة علمه .

(وقال سفيان الثوري ) رحمه الله تعالى (عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء وعليك بالحذر ) أي : الخوف (ممن يملك العقوبة ) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقال فرقد ) بن يعقوب (السبخي ) بفتح المهملة والموحدة وبخاء معجمة أبو يعقوب البصري صدوق عابد لين الحديث روى له الترمذي وابن ماجه مات سنة إحدى وثلاثين ومائة (إن المنافق ينظر فإذا لم ير أحدا دخل مدخل السوء وإنما يراقب الناس ولا يراقب الله تعالى وقال ) أبو عبد الرحمن (عبد الله بن دينار ) العدوي مولى ابن عمر مات سنة سبع وعشرين ومائة روى له الجماعة (خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرسنا في بعض الطريق فانحدر عليه راع من الجبل ) معه غنمه (فقال له يا راعي بعني شاة من هذه ) الثلة يحتمل أنه ظن ملكه لبعض الغنم أو أنه لما رأى حسن رعايته لها في الظاهر فأراد أن يختبر باطنه هل ذلك عن دين أو عادة (فقال إني مملوك ) وهذه الغنم ليست ملكا لي إنما أنا أرعاها (فقال قل لسيدك ) إذا سألك عنها (أكلها الذئب ) وهذا يؤكد الاحتمال الثاني أنه اختبار (قال فأين الله ) فإنه يعلم ذلك ويؤاخذني به (قال ) الراوي (فبكى عمر رضي الله عنه ) من سماع هذا الكلام (ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه وقال أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة وأرجو أن تعتقك في الآخرة ) والذي في الرسالة للقشيري وقيل كان ابن عمر في سفر فرأى غلاما يرعى غنما فقال تبيع من هذه الغنم واحدة فقال إنها ليست لي فقال قل لصاحبها إن الذئب أخذ منها واحدة فقال العبد فأين الله فكان ابن عمر يقول بعد ذلك إلى مدة قال ذلك العبد فأين الله . اهـ .

قال الشارح لأنه لما علم بذلك دينه ومراقبته لله أعجبه حاله وصار عبرة له يتذكر به زمانا قال وروي أنه سأل عن رب الغنم فاشتراه والغنم وأعتقه ووهبها له قلت والنفس تميل إلى أن هذه القصة وقعت لابن عمر وشاهده رواية ابن دينار عنه وهو مولاه وملازمه في أسفاره ، وقد روي أيضا عن نافع وفيه التصريح بأن الواقعة لابن عمر قال ابن شاذان أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر الأودي أخبرنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي حدثنا محمد بن يزيد حدثنا عبد العزيز قال قال نافع خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فقال له عبد الله هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة فقال إني صائم فقال له عبد الله في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب [ ص: 99 ] في مثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم فقال الراعي أبادر لأيامي الخالية فعجب ابن عمر وقال هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها قال إنها ليست لي إنها لمولاي قال فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب فمضى الراعي وهو رافع إصبعيه إلى السماء وهو يقول فأين الله فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم ومما ذكر القشيري في هذا الباب من الرسالة سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت الجريري يقول من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة سمعت أبا علي الدقاق يقول كان لبعض الأمراء وزير فكان بين يديه يوما فالتفت إلى بعض الغلمان الذين كانوا وقوفا لا لريبة ولكن لحركة أو صوت أحسن منهم فاتفق أن ذلك الأمير نظر إلى هذا الوزير في تلك الحالة فخاف الوزير أن يتوهم الأمير أنه نظر إليهم لريبة فجعل ينظر إليه كذلك فبعد ذلك اليوم كان هذا الوزير يدخل على الأمير أبدا وهو ينظر إلى جانبه حتى توهم الأمير أن ذلك خلقه وحول فيه فهذا مراقبة مخلوق لمخلوق فكيف مراقبة العبد لسيده سمعت بعض الفقراء يقول كان أمير له غلام يقبل عليه أكثر مراقبا له على غيره من غلمانه ولم يكن أكثرهم قيمة ولا أحسنهم صورة فقالوا له في ذلك فأراد الأمير أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فيوما من الأيام كان راكبا ومعه الحشم وبالبعد منهم جبل عليه ثلج فنظر الأمير إلى ذلك الثلج وأطرق فركض الغلام فرسه ولم يعلم القوم لماذا ركض فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ومعه شيء من الثلج فقال الأمير ما أدراك أني أردت الثلج فقال الغلام لأنك نظرت إليه ونظر السلطان إلى شيء لا يكون عن غير قصد فقال الأمير إنما أخصه بإكرامي وإقبالي عليه لأن لكل أحد شغلا وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي وقال بعضهم من راقب الله في خواطره عصمه الله في جوارحه وسئل أبو الحسين بن هند متى يهش الراعي غنمه بعصا الرعاية من مواقع الهلكة فقال إذا علم أن عليه رقيبا وقال ذو النون علامة المراقبة إيثار ما آثر الله وتعظيم ما عظم الله وتصغير ما صغر الله وقال النصراباذي الرجاء يجرك إلى الطاعات والخوف يبعدك عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى صرف الحقائق سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا العباس البغدادي يقول سألت جعفر بن نصير عن المراقبة فقال مراعاة السر لملاحظة الغيب في كل خطرة وقال إبراهيم الخواص المراعاة تورث المراقبة والمراقبة خلوص السر والعلانية لله سمعته يقول سمعت محمد بن عبد الله يقول سمعت أبا جعفر الصيدلاني يقول سمعت أبا سعيد الخراز يقول قال لي بعض مشايخي عليك بمراعاة سرك والمراقبة قال بينا أنا أسير في البادية إذا أنا بخشخشة خلفي فهالني ذلك وأردت أن التفت فلم ألتفت فرأيت شابا واقفا على كتفي فانصرف وأنا مراع لسري ثم التفت فإذا أنا بسبع عظيم .

وقال الواسطي أفضل الطاعات حفظ الأوقات وهو أن لا يطالع العبد غير حده ولا يراقب غير ربه ولا يقارن غير وقته والله أعلم .




الخدمات العلمية