الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهو القائل لا يتحرك الإنسان إلا لحظ والبراءة من الحظوظ صفة الإلهية ومن ادعى ذلك فهو كافر .

وقد قضى القاضي أبو بكر الباقلاني بتكفير من يدعي البراءة من الحظوظ وقال : هذا من صفات الإلهية وما ذكره حق ، ولكن القوم إنما أرادوا به البراءة عما يسميه الناس حظوظا ، وهو الشهوات الموصوفة في الجنة فقط ، فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة والنظر إلى وجه الله تعالى فهذا حظ هؤلاء وهذا لا يعده الناس حظا ، بل يتعجبون منه .

وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة السجود للحضرة الإلهية سرا وجهرا جميع نعيم الجنة لاستحقروه ولم يلتفتوا إليه ، فحركتهم لحظ ، وطاعتهم لحظ ، ولكن حظهم معبودهم فقط دون غيره .

وقال أبو عثمان الإخلاص نسيان روية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط .

وهذا إشارة إلى آفة الرياء فقط ولذلك قال بعضهم : الإخلاص في العمل أن لا يطلع عليه شيطان فيفسده ، ولا ملك فيكتبه فإنه إشارة إلى مجرد الإخفاء .

وقد قيل : الإخلاص ما استتر عن الخلائق ،وصفا عن العلائق .

وهذا أجمع للمقاصد .

وقال المحاسبي الإخلاص هو إخراج الخلق عن معاملة الرب .

وهذا إشارة إلى مجرد نفي الرياء .

وكذلك قول الخواص من شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية .

وقال الحواريون لعيسى عليه السلام : ما الخالص من الأعمال فقال : الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده عليه أحد .

وهذا أيضا تعرض لترك الرياء ، وإنما خصه بالذكر لأنه أقوى الأسباب المشوشة للإخلاص .

وقال الجنيد : الإخلاص تصفية العمل من الكدورات .

وقال الفضيل ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما .

وقيل : الإخلاص دوام المراقبة ، ونسيان الحظوظ كلها .

وهذا هو البيان الكامل والأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة .

وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الإخلاص ، فقال : أن تقول : ربي الله ثم تستقيم كما أمرت أي : لا تعبد هواك ونفسك ، ولا تعبد إلا ربك ، وتستقيم في عبادته كما أمرت ، وهذا إشارة إلى قطع ما سوى الله عن مجرى النظر ، وهو الإخلاص حقا .

التالي السابق


(وقول القائل ) في اعتراضه على من قال: إن الإخلاص هو البراءة من الحظوظ في الحركة والسكون كيف هذا مع أنه (لا يتحرك الإنسان إلا لحظ ) وكذا لا يسكن إلا لحظ (والبراءة من الحظوظ ) كلها في سائر الأفعال (صفة الإلهية ومن ادعى ذلك فهو كافر ) لأنه قد أشرك بالله في صفة من صفاته المختصة به .

(وقد قضى القاضي أبو بكر ) محمد بن الطيب (الباقلاني ) البصري، المتكلم على مذهب الأشعري، وسمع الحديث من العقيلي، توفي سنة 403 (بتكفير من يدعي البراءة ) لنفسه (من الحظوظ ) كلها .

(وقال: هذا من صفات الإلهية ) فلا يتصف بها أحد (وما ذكره حق، ولكن القوم إنما أرادوا به البراءة مما يسميه الناس حظوظا، وهو الشهوات الموصوفة في الجنة فقط، فأما التلذذ بمجرد المعرفة ) الخاصة (والمناجاة ) والأنس (والنظر إلى وجه الله تعالى فهذا حظ هؤلاء ) الطائفة (وهذا لا يعده الناس حظا، بل يتعجبون منه، وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة الشهود للحضرة الإلهية سرا وجهرا جميع نعيم الجنة لاستحقروه ) بجنب ما هم فيه (ولم يلتفتوا إليه، فحركتهم لحظ، وطاعتهم لحظ، ولكن حظهم معبودهم فقط دون غيره ) وقد يقال: إن الذي ذكره رويم حد للعمل الخالص لا للإخلاص .

(وقال أبو عثمان ) سعيد بن إسماعيل الجبري النيسابوري، المتوفى سنة 268: (الإخلاص نسيان رؤية الخلق ) أي: في العمل (بدوام النظر إلى ) فضل (الخالق ) عليك، نقله القشيري ، وهذا إخلاص؛ فإنهم يخلصون عملهم حتى من رؤيتهم له استحسانا .

(وهذا إشارة إلى آفة الرياء فقط ) كما أن قول السوسي إشارة إلى آفة العجب (ولذلك قال بعضهم: الإخلاص في العمل أن لا يطلع عليه شيطان فيفسده، ولا ملك فيكتبه ) وهذا قول الجنيد، ولفظه عند القشيري ، قال الجنيد: الإخلاص سر بين الله وبين العبد، لا يعمله ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله. اهـ .

أي: لا يؤثر فيه أحد من هؤلاء؛ لما في قلب المتصف به من إفراد ربه بالعمل بسره، وهذه الحالة إنما يخص الله بها خواصه من أوليائه؛ ولذلك قالوا: من لم يكن بينه وبين الله سر فهو مصر، ويؤيده ما تقدم من خبر حذيفة: الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي. ويقرب منه قول ذي النون: الإخلاص ما حفظ من الله وإن لم يفسده. وأيضا قول من سئل عن الإخلاص فقال: أن لا يشهد عملك غير الله (فإنه إشارة إلى مجرد الإخفاء ) ويقال أيضا: إن هذا حد لخالص العمل لا للإخلاص .

(وقد قيل: الإخلاص ما استتر عن الخلائق، وصفا من العلائق، وهذا ) الحد (أجمع للمقاصد ) فإن الشطر الأول يشير إلى الإخفاء، والثاني إلى قطع الحظوظ، فالأول فيه السلامة من الرياء، والثاني فيه السلامة من الهوى، وحقيقة الإخلاص السلامة منهما .

(وقال ) الحارث بن أسد (المحاسبي ) رحمه الله تعالى: (الإخلاص هو إخراج الخلق [ ص: 56 ] عن معاملة الرب، وهذا إشارة إلى مجرد نفي الرياء ) ويقرب منه قول من قال: هو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقول من قال: هو التوقي عن ملاحظة الأشخاص، وقول من قال: هو التوقي عن ملاحظة الخلق، وقد تقدم ذكر الأقوال الثلاثة .

(وكذلك قول ) إبراهيم بن أحمد (الخواص ) رحمه الله تعالى: (من شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية ) أي: فإن العبودية تقتضي الذل، وإخلاصها عبارة عن كمالها، فمن كمل في عبوديته كان بمعزل عن الرياسة .

(وقال الحواريون لعيسى -عليه السلام-: ما الخالص من الأعمال ) ولفظ القوت قالوا له: يا روح الله، ما الإخلاص لله عز وجل؟ (فقال: الذي يعمل العمل لله تعالى لا يحب أن يحمده عليه أحد من الناس ) وتمامه عند صاحب القوت: قالوا: فمن الناصح لله عز وجل؟ قال: الذي يبدأ بحق الله -عز وجل- قبل حق الناس، وإذا عرض له أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة بدأ بأمر الله تعالى قبل أمر الدنيا. انتهى .

ويروى في الخبر: لكل حق حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل الله عز وجل .

(وهذا أيضا تعرض لترك الرياء، وإنما خصه بالذكر ) دون غيره من الآفات (لأنه أقوى الأسباب المشوشة للإخلاص ) ففي الخبر: "أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية. قيل: حب الدنيا، وقيل: العمل لأجل أن يؤجر العبد ويحمد .

(وقال الجنيد ) قدس سره: (الإخلاص تصفية العمل عن الكدورات ) ولا يتم ذلك إلا إذا ملك شيئين، أحدهما عنده أولى به من الآخر: صحة القصد لوجه الله، ثم إخراج الآفات، أو الحذر عليه من دخولها عليه إلى فراغه منه، فبذلك يتم إخلاصه، ويصفو من كدورات الهوى، ويخلص من الشهوة الخفية، فيكون خالصا من الرياء بالإخلاص، صافيا من الشهوة بتفقد دخول الآفة .

(وقال الفضيل ) بن عياض -رحمه الله تعالى-: (ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما ) نقله القشيري سماعا، عن محمد بن الحسين، قال: سمعت علي بن بندار الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن محمود يقول: سمعت محمد بن عبد ربه يقول: سمعت الفضيل يقول، فذكره .

ومعنى قوله: "ترك العمل" إلخ، أي: من حيث يتوهم منهم أنهم ينسبونه بالعمل إلى الرياء، فيكره هذه النسبة، ويحب دوام نظرهم له بالإخلاص، فيكون مرائيا بتركه؛ محبة للدوام نسبة إلى الإخلاص لا للرياء .

وقوله: "والعمل" إلخ، أي: لكونه أشرك في عمله غيره، وهذا يرجع إلى قول من قال: الإخلاص تصفية العمل من الرياء والهوى .

وقال صاحب القوت: ولا يترك العبد العمل الصالح خشية دخول الآفة عليه، ولا يدعه إن كان داخلا فيه؛ لما يعتريه، فإن ذلك بغية عدوه منه، لكن يكون على نية الأولى من صحة القصد، فإن دخلت عليه وضع عليها دواء، فعمل في نفيها وإزالتها، وثبت على حسن نيته وصالح معاملته، ولا يدع عملا لأجل الخلق حياء منهم وكراهة اعتقادهم فضله، فإن العمل لأجل الناس شرك، وتركه لأجلهم رياء، وترك العمل خشية دخول الآفة فيه جهل، وتركه عند دخول العلة عليه ضعف ووهن .

ومن دخل في العمل لله تعالى وخرج منه لله تعالى لم يضره ما كان بين ذلك بعد أن ينفيه، ولا يساكنه، وقد يضره ما يكون بعد ذلك منه إن كان سرا فأظهر بعد زمان فصار علانية، فنقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، ومثل أن يتظاهر به ويفتخر، ويدلي به ويتكبر، فيحبط ذلك عمله؛ لأنه قد أفسده، والله لا يصلح عمل المفسدين .

ومن دخل في العمل لله تعالى، ودخل عليه في وسط العمل علة، فخرج من العمل مما أبطل عمله، ومن دخل في العمل بآفة وخرج منه بصحة، سلم له عمله، وجبر بآخره أوله، وأفضل الأعمال ما دخل في أوله لله تعالى، وخرج منه بالله تعالى، ولم تطرقه فيما بينهما آفة، فيكون الله تعالى هو الأول والآخر معه وعنده، ثم لا يظهره بعد ذلك، ولا يتظاهر به. انتهى .

وقال صاحب المقاصد: الفائدة الثانية: أن لا يترك العمل؛ خوفا من غرة الإخلاص؛ فإن ترك العمل من جهة الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، بل يعمل ويجتهد في الإخلاص، فإن ترك الأعمال لا يقدر عليها إلا بالتدريج، شيئا فشيئا، ففي الخبر: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" فهذا يدل على الدخول في الدين قهرا لا بالاختيار، ولكن ذلك تدريج إلى مجالسة المؤمنين، ومشاهدة أحوالهم، وإلى استماع ما أنزل الله عليهم؛ ليكون موصلا للإيمان إلى قلوبهم [ ص: 57 ] فيدخلون في الدين باختيارهم، ثم يتدرجون قليلا قليلا إلى أن يبلغوا منازل المقربين، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: والمؤلفة قلوبهم .

(وقيل: الإخلاص دوام المراقبة، ونسيان الحظوظ كلها، وهذا هو البيان الكامل ) .

فإن دوام المراقبة يستدعي الاستغراق في العبودية، والمستغرق فيها لا يلتفت في سائر أحواله إلا إلى الله تعالى، ونسيان الحظوظ يستدعي عدم الرؤية في إخلاصه، فصار بذلك جامعا لمعاني الإخلاص كلها .

(والأقاويل في هذا كثيرة ) فمن ذلك قولهم: الإخلاص استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة، وهذا نقله القشيري عن ذي النون، وهي من علامات الإخلاص .

وقيل: نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه، فإذا أراد الله أن يخلص إخلاصه أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه، فيكون مخلصا لا مخلصا، نقله القشيري عن أبي بكر الدقاق، وهو بعينه قول أبي يعقوب السوسي، الذي ذكره المصنف .

وقال أبو علي الروذباري: قال لي رويم: قال أبو سعيد الخراز: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين .

وقال حذيفة المرعشي: الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن. وقيل: الإخلاص ما أريد به الحق، وقصد به الصدق. وقيل: الإخلاص الإغماض عن رؤية الأعمال .

وقال السري: من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله .

وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص .

(ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة، وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم- إذ سئل عن الإخلاص، فقال: أن تقول: ربي الله ثم تستقيم كما أمرت ) .

قال العراقي: لم أره بهذا اللفظ، وللترمذي وصححه وابن ماجه من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي: "قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: قل ربي الله ثم استقم".

وهو عند مسلم بلفظ: "قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل: آمنت بالله ثم استقم". اهـ .

قلت: ذكر الحافظ في ترجمة سفيان هذا في الإصابة الحديث المذكور باللفظ الأول، وقال: أخرج حديثه مسلم والترمذي والنسائي ، أي: فذكر النسائي بدل ابن ماجه. والله أعلم .

ووجدت في القوت ما يشبه هذا السياق، قال: فأحسن تفسير النية ما فسره به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن الإحسان، فقال: "تعبد الله كأنك تراه" فهذه شهادة العارفين، ومعرفة الموقنين، فهم مخلص المخلصين. انتهى .

(أي: لا تعبد هواك ونفسك، ولا تعبد إلا ربك، وتستقيم في عبادته كما أمرت، وهذا ) لا يطيقه إلا الأكابر؛ إذ هو (إشارة إلى قطع ما سوى الله من مجرى النظر، وهو الإخلاص حقا ) .

وذكروا في الاستقامة أنها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الله على حقيقة الصدق. والله الموفق .




الخدمات العلمية