الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر الريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال : أيتها النفس المطمئنة اخرجي راضية ومرضيا عنك إلى روح الله وكرامته فإذا أخرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليها الحريرة وبعث بها إلى عليين ، وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا ويقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة ومسخوطا عليك إلى هوان الله وعذابه فإذا أخرجت روحه وضعت على تلك الجمرة وأن لها نشيشا ويطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين وعن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقرأ قوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت قال : أي شيء تريد في أي شيء ترغب أتريد أن ترجع لتجمع المال وتغرس الغراس وتبني البنيان وتشقق الأنهار قال لا : لعلي أعمل صالحا فيما تركت قال : فيقول الجبار : كلا إنها كلمة هو قائلها أي : ليقولنها عند الموت .

التالي السابق


(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا حضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر الريحان) جمع ضبارة بالكسر هي الجماعات في تفرقة قاله ابن الأثير، وقد تقدم ضبطه في حديث تميم الداري (فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال: أيتها النفس المطمئنة اخرجي راضية مرضية مرضيا عنك إلى روح الله وكرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليها الحريرة وبعث بها إلى عليين، وإن الكافر إذا حضر أتته الملائكة بمسح) بالكسر قطعة من الكساء الأسود (فيه جمرة) أي: من جهنم (فتنزع روحه انتزاعا شديدا ويقال: أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة ومسخوطا عليك إلى هوان الله وعذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة فإن لها نشيشا) أي: صوتا (ويطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين) .

قال العراقي: رواه النسائي وابن حبان مع اختلاف والبزار بلفظ المصنف. اهـ .

قلت: هذا لفظ البزار ورواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم واللفظ له والبيهقي بلفظ: إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان فتخرج [ ص: 402 ] كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا فيشمونه حتى يأتوا به إلى باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءت من الأرض! كلما أتوا سماء قالوا ذلك حتى يأتوا به إلى أرواح المؤمنين فلهم أفرح به ما من أحدكم بغائبه إذا قدم عليه فيسألونه: ما فعل فلان؟ فيقولون: دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال لهم: ما أتاكم فإنه قد مات؟ يقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية، وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وسخطه فتخرج كأنتن ريح جيفة فينطلقون إلى باب الأرض فيقولون: ما أنتن هذه الريح! كلما أتوا على أرض قالوا ذلك حتى يأتوا به أرواح الكفار، لفظ الحاكم إلى قوله: باب الأرض، وما بعده لفظ النسائي وأخرجه أبو بكر المروزي في كتاب الجنائز عن القواريري عن حماد بن زيد عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال: إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان فصعدا بها فذكر من طيبها ويقول أهل السماء: ريح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه فينطلقون به إلى ربه تعالى، ولحديث أبي هريرة طريق أخرى روى ابن ماجه والبيهقي عنه مرفوعا قال: تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا تزال يقال لها كذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلانة فيقول: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة، فإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنها لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر، وروى مسلم عن أبي هريرة قال: إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان فيصعدان بها فذكر من طيبها ويقول أهل السماء: ريح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه فينطلقون به إلى ربه تعالى ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه فذكر من نتنها وذكر لعنا وتقول أهل السماء: ريح خبيثة جاءت من قبل الأرض فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل، فحديث أبي هريرة بطرقه المذكورة شاهد جيد لحديث البراء السابق، ومن شواهده أيضا ما رواه هناد في الزهد وعبد بن حميد في التفسير والطبراني بسند رجاله ثقات عن عبد الله بن عمر وقال: إذا توفى الله العبد المؤمن أرسل إليه ملكين بخرقة من الجنة فقالا: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان اخرجي فنعم ما قدمت فتخرج كأطيب ريح مسك وجدها أحدكم بأنفه وعلى أرجاء السماء ملائكة يقولون: سبحان الله لقد جاء من الأرض اليوم روح طيبة فلا تمر بباب إلا فتح له ولا ملك إلا صلى عليه وشفع حتى يؤتى به ربه -عز وجل- فتسجد الملائكة قبله ثم يقولون: هذا عبدك فلان توفيناه وأنت أعلم به فيقول: مروه بالسجود فتسجد النسمة ثم يدعى ميكائيل فيقال: اجعل هذه النسمة مع نفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة فيؤمر بقبره فيوسع له طوله سبعون وعرضه سبعون وينبذ فيه الريحان ويبسط له فيه الحرير، وإن كان معه شيء من القرآن نوره وإلا جعل له نور مثل نور الشمس، ثم يفتح له باب إلى الجنة فينظر إلى مقعده في الجنة بكرة وعشيا، وإذا توفى الله العبد الكافر أرسل إليه ملكين وأرسل إليه بجادا أنتن من كل نتن وأخشن من كل خشن، فقال: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم ورب عليك ساخط، اخرجي فساء ما قدمت فتخرج كأنتن جيفة وجدها أحدكم بأنفه قط وعلى أرجاء السماء ملائكة يقولون: سبحان الله لقد جاء من الأرض جيفة ونسمة خبيثة لا يفتح لها باب السماء فيؤمر بجسده فيضيق عليه القبر ويملأ حيات مثل أعناق البخت تأكل لحمه فلا تدع من عظامه شيئا ثم يرسل عليه ملائكة صم عمي معهم فطاطيس من حديد لا يبصرونه فيرحمونه ولا يسمعون صوته فيرحمونه فيضربونه ويخبطونه ويفتح له باب من نار فينظر إلى مقعده [ ص: 403 ] من النار بكرة وعشيا يسأل الله أن يديم ذلك عليه فلا يصل إلى ما وراءه من النار. أرجاء السماء نواحيها، والبجاد الكساء الغليظ، والفطاطيس جمع فطيس كسكير المطرقة العظيمة، وروى ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي واللالكائي عن أبي موسى الأشعري قال: تخرج نفس المؤمن وهي أطيب ريحا من المسك فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها فتلقاهم ملائكة دون السماء فيقولون: من هذا معكم؟ فيقولون: فلان ويذكرونه بأحسن عمله فيقولون: حياكم الله وحيا من معكم فتفتح له أبواب السماء فيشرق وجهه فيأتي الرب ولوجهه برهان مثل الشمس قال: وأما الكافر فتخرج نفسه وهي أنتن من الجيفة فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها فتلقاهم ملائكة دون السماء فيقولون: من هذا؟ فيقولون: فلان ويذكرونه بأسوأ عمله فيقولون: ردوه فما ظلمه الله شيئا، وقرأ أبو موسى: ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، وروى ابن المبارك من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله تعالى: كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين قال: إن روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء فتفتح لها أبواب السماء وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى ينتهى بها إلى العرش وتعرج الملائكة فتخرج لها الملائكة تحت العرش رقا فيختم ويرقم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة للحساب يوم القيامة فذلك قوله تعالى: كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم قال: وقوله تعالى: كلا إن كتاب الفجار لفي سجين قال: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها فيهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين وهو خد إبليس فتخرج لها من خد إبليس كتابا فيختم ويوضع تحت خد إبليس لهلاكه للحساب فذلك قوله تعالى: وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ، وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخعي، قال: بلغنا أن المؤمن يستقبل عند موته بطيب من طيب الجنة وريحان الجنة فتقبض روحه فتجعل في حرير من حرير الجنة، ثم ينضح بذلك الطيب ويلف في الريحان، ثم ترتقي به ملائكة الرحمة حتى يجعل في عليين، وروى ابن أبي مردويه وابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها في الجنة أو النار، ثم قال: فإذا كان عند ذلك صف له سماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقين كأن وجوهم الشمس فينظر إليهم ما يرى غيرهم، وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم، مع كل ملك منهم أكفان وحنوط فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة وقالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى رضوان الله وجنته فقد أعد الله لك من الكرامة ما هو خير لك من الدنيا وما فيها فلا يزالون يبشرونه ويحفون به فهم ألطف به وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل ويموت الأول فالأول ويهون عليه وإن كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه فهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم فيبتدرونها كل منهم أيهم يقبضها فيتولى قبضها ملك الموت ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم فيتلقاها بأكفان بيض، ثم يحتضنها إليه فلهو أشد لزوما لها من المرأة لولدها، ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك يستنشقون ريحها ويتباشرون بها ويقولون مرحبا بالريح الطيبة والروح الطيب اللهم صل عليه روحا، وصل على جسد خرجت منه فيصعدون بها إلى الله ولله خلق في الهواء لا يعلم عدتهم إلا هو فيفوح لهم منها ريح أطيب من المسك فيصلون عليها ويتباشرون بها وتفتح لهم أبواب السماء فيصلي عليها كل ملك في السماء تمر بهم حتى ينتهى بها إلى الملك فيقول الجبار جل جلاله: مرحبا بالنفس الطيبة وبجسد خرجت منه، وإذا قال الرب جل جلاله لشيء: مرحبا رحب له كل شيء ويذهب عنه كل ضيق، ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنة واعرضوا عليها ما أعد لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فوالذي نفسي بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حيث كانت تخرج من الجسد وتقول: أين تذهبون بي؟ إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه فيقولون: إنا مأمورون بهذا فلا بد لك منه فيهبطون بها على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه، وروى ابن أبي حاتم عن السدي قال الكافر إذا أخذ روحه ضربته ملائكة الأرض حتى ترتفع في السماء فإذا بلغ السماء [ ص: 404 ] ضربته ملائكة السماء فهبط فضربته ملائكة الأرض فارتفع فضربته ملائكة السماء الدنيا فهبط إلى أسفل الأرضين (وعن محمد بن كعب) بن سليم بن أسد أبو حمزة (القرظي) المدني نزيل الكوفة ولد سنة أربعين على الصحيح روى له الجماعة (أنه كان يقرأ قوله تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت قال: أي شيء ترغب أتريد أن ترجع لتجمع المال وتغرس الغراس وتبني البنيان وتشقق الأنهار قال: لعلي أعمل صالحا فيما تركت قال: فيقول الجبار: كلا إنها كلمة هو قائلها أي: ليقولنها عند الموت) .

رواه ابن أبي الدنيا، وروى ابن جرير وابن المنذر في تفسيرهما عن ابن جريج قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان قدما إلى الله، وأما الكافر فيقولون: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، وروى الديلمي من حديث جابر: إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه فعند ذلك يقول ربي ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، وفي الآية وجه آخر تقدم ذكره في كتاب الزكاة .




الخدمات العلمية