الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وتتوالى علينا مع سكرات الموت بقية الدواهي ، فإن دواهي الموت ثلاث:

: الأولى شدة النزع كما ذكرناه .

الداهية الثانية: مشاهدة صورة ملك الموت ، ودخول الروع والخوف منه على القلب ، فلو رأى صورته التي يقبض عليها روح العبد المذنب أعظم الرجال قوة لم يطق رؤيته .

; فقد روي عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لملك الموت : هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض عليها روح الفاجر ؟ قال : لا تطيق ذلك قال بلى ، قال : فأعرض عني ، فأعرض عنه .

ثم التفت فإذا هو برجل أسود قائم ، الشعر ، منتن الريح ، أسود الثياب ، يخرج من فيه ومناخيره لهيب النار والدخان فغشي ، على إبراهيم عليه السلام .

، ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال : ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند الموت إلا صورة وجهك لكان حسبه وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن داود عليه السلام كان رجلا غيورا ، وكان إذا خرج أغلق الأبواب ، فأغلق ذات يوم وخرج ، فأشرفت امرأته فإذا هي برجل في الدار ، فقالت : من أدخل هذا الرجل ؟ لئن جاء داود ليلقين منه عناء فجاء داود فرآه فقال : من أنت ؟ فقال : أنا الذي لا أهاب الملوك ، ولا يمنع مني الحجاب ، فقال : فأنت والله إذن ملك الموت ، وزمل داود عليه السلام مكانه وروي أن عيسى عليه السلام مر بجمجمة فضربها برجله ، فقال : تكلمي بإذن الله ، فقالت : يا روح الله ، أنا ملك زمان كذا وكذا بينا ، أنا جالس في ملكي علي تاجي ، وحولي جنودي وحشمي على سرير ملكي ، إذ بدا لي ملك الموت ، فزال مني كل عضو على حياله ، ثم خرجت نفسي إليه ، فيا ليت ما كان من تلك الجموع كان فرقة ويا ليت ، ما كان من ذلك الأنس كان وحشة فهذه داهية يلقاها العصاة ، ويكفاها المطيعون ، فقد حكى الأنبياء مجرد سكرة النزع دون الروعة التي يدركها من يشاهد صورة ملك الموت كذلك ، ولو رآها في منامه ليلة لتنغص عليه بقية عمره ، فكيف برؤيته في مثل تلك الحال .

وأما المطيع فإنه يراه في أحسن صورة وأجملها ، فقد روى عكرمة عن ابن عباس إن إبراهيم عليه السلام كان رجلا غيورا ، وكان له بيت يتعبد فيه ، فإذا خرج أغلقه ، فرجع ذات يوم فإذا برجل في جوف البيت فقال : من أدخلك داري ؟ فقال : أدخلنيها ربها ، فقال : أنا ربها ، فقال : أدخلنيها من هو أملك بها مني ومنك ، فقال : من أنت من الملائكة ؟ قال : أنا ملك الموت ، قال : هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن ؟ قال : نعم ، فأعرض عني ، فأعرض ، ثم التفت فإذا هو بشاب فذكر من حسن وجهه ، وحسن ثيابه ، وطيب ريحه ، فقال : يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن عند الموت إلا صورتك كان حسبه .

التالي السابق


(ويتوالى علينا مع سكرات الموت بقية الدواهي، فإن دواهي الموت ثلاثة: الأولى شدة النزع ) من أعماق البدن، ومن كل عضو عضو (كما ذكرناه. الداهية الثانية مشاهدة صورة ملك الموت، ودخول الروع والخوف منه على القلب، فلو رأى صورته التي يقبض عليها روح العبد المذنب أعظم الرجال قوة لم يطق رؤيته; فقد روي عن إبراهيم الخليل- عليه السلام- أنه قال لملك الموت: هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض عليها روح الفاجر؟ قال: لا تطيق ذلك، قال: بلى، قال: فأعرض عني، فأعرض عنه، ثم التفت فإذا هو برجل أسود، قاتم الشعر، منتن الريح، أسود الثياب، يخرج من فيه ومناخيره لهيب النار والدخان، فغشي على إبراهيم، ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال: يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند الموت إلا صورة وجهك لكان حسبه ) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت عن ابن مسعود، وابن عباس، قالا: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا، سأل ملك الموت ربه أن يأذن له بذلك، فأذن له، فجاء إبراهيم فبشره، فقال: الحمد لله، ثم قال: يا ملك الموت أرني كيف تقبض أنفاس الكفار؟ [ ص: 264 ] قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك، قال: بلى، قال: فأعرض، فأعرض، ثم نظر فإذا برجل أسود ينال رأسه السماء، يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل، يخرج من فيه ومسامعه لهب النار، فغشي على إبراهيم، ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت لو لم يلق الكافر من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين، قال: أعرض فأعرض، ثم التفت فإذا هو رجل شاب أحسن الناس وجها، وأطيبهم ريحا في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت لو لم ير المؤمن عند موته من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه.

وروي أيضا عن كعب أن إبراهيم- عليه السلام- رأى في بيته رجلا فقال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت، فقال إبراهيم عليه السلام: إن كنت صادقا فأرني منك آية أعرف أنك ملك الموت، قال له ملك الموت: أعرض بوجهك، فأعرض، ثم نظر فأراه الصورة التي يقبض فيها المؤمنين، قال فرأى من النور والبهاء شيئا لا يعلمه إلا الله، ثم قال: أعرض بوجهك، فأعرض، ثم نظر فأراه الصورة التي يقبض فيها الكفار والفجار، فرعب إبراهيم- عليه السلام- رعبا حتى أرعدت فرائصه، وألصق بطنه بالأرض، وكادت نفسه تخرج. وروي أيضا عن عبيد بن عمير قال: بينما إبراهيم- عليه السلام- يوما في داره إذ دخل عليه رجل حسن الشارة، فقال: يا عبد الله من أدخلك داري؟ قال: أدخلنيها ربها، قال ربها أحق بها فمن أنت؟ قال: ملك الموت، قال: لقد نعت إلي منك أشياء ما أراها فيك، قال: أدبر، فأدبر، فإذا عيون مقبلة، وعيون مدبرة، وإذا كل شعرة منه كأنها إنسان قائم، فتعوذ إبراهيم- عليه السلام- من ذلك وقال: عد إلى الصورة الأولى، قال: يا إبراهيم إن الله إذا بعثني إلى من يحب لقاءه بعثني في الصورة التي رأيت أولا.

(وروى أبو هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أن داود- عليه السلام- كان رجلا غيورا، وكان إذا خرج أغلق الأبواب، فأغلق ذات يوم وخرج، فأشرفت امرأته فإذا هي برجل في الدار، فقالت: من أدخل هذا الرجل؟ لئن جاء داود ليلقين منه عنتا ) أي شدة وحرجا (فجاء داود ) عليه السلام (فرآه فقال: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا يمنع مني الحجاب، فقال: فأنت والله إذا ملك الموت، وزمل داود عليه السلام مكانه ) . قال العراقي رواه أحمد بإسناد جيد نحوه، وابن أبي الدنيا في كتاب الموت بلفظه اهـ. قلت: لفظ أحمد: كان داود- عليه السلام- فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع، فخرج ذات يوم ورجع فإذا في الدار رجل قائم فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا يمنع مني الحجاب، فقال داود عليه السلام: أنت إذا والله ملك الموت، مرحبا بأمر الله، فزمل داود مكانه، فقبضت نفسه حتى فرغ من شأنه فطلعت عليه الشمس فقال سليمان للطير: أظلي على داود، فأظلت عليه حتى أظلت عليه الأرض، فقال لها سليمان: اقبضي جناحا جناحا، وغلبت عليه يومئذ المضرحية.

(وروي أن عيسى- عليه السلام- مر بجمجمة فضربها برجله، فقال: تكلمي بإذن الله، فقالت: يا روح الله، أنا ملك زمان كذا وكذا، بينما أنا جالس في ملكي علي تاجي، وحولي جنودي وحشمي على سرير ملكي، إذ بدا لي ملك الموت، فزال مني كل عضو على حياله، ثم خرجت نفسي إليه، فيا ليت ما كان من تلك الجموع كان فرقة، ويا ليت ما كان من ذلك الأنس كان وحشة ) . روى أبو حذيفة إسحاق بن بشر فى المبتدأ نحو ذلك فقال: حدثنا محمد بن عبد الله البصري، وعامر بن عبد الله، شيخ من أهل نهرتيري، يرفعانه إلى كعب قالا: قال كعب الأحبار: "إن عيسى عليه السلام مر ذات يوم بوادي القيامة، وهي عشية يوم الجمعة عند العصر، فإذا هو بجمجمة بيضاء نخرة قد مات صاحبها منذ أربعة وتسعين سنة، فوقف عليها متعجبا منها وقال: يا رب ائذن لهذه الجمجمة أن تكلمني بلسان حي تخبرني ماذا لقيت من العذاب؟ وكم أتى عليها منذ ماتت؟ وماذا عاينت؟ وبأي هيئة ماتت؟ وماذا كانت تعبد؟ قال: فآتاه نداء من السماء فقال: يا روح الله، وكلمته، سلها فإنها ستخبرك، فصلى عيسى ركعتين ثم دنا منها فوضع يده عليها فقال عيسى: بسم الله وبالله، فقالت الجمجمة: خير الأسماء دعوت، وبالذكر استعنت، فقال عيسى: أيتها الجمجمة النخرة، قالت: لبيك وسعديك، سلني عما بدا لك، قال: كم أتى عليك مذ مت؟ قالت: لا نفس بعد الحياة، ولا روح تحصي السنين، فأتاه نداء إنها قد ماتت منذ أربعة وتسعين سنة، فسلها قال: في ماذا مت؟ قالت: كنت جالسة ذات يوم إذ أتاني مثل السهم من السماء فدخل جوفي مثل [ ص: 265 ] الحريق، وكان مثلي مثل رجل دخل الحمام، فأصابه حره، فهو يلتمس الروح مخافة على نفسه بأن تهلك، قال: فأتاني ملك الموت ومعه أعوان، وجوههم مثل وجوه الكلاب، بادية أنيابهم، زرق أعينهم كلهبان النار، بأيديهم المقامع، يضربون وجهي ودبري، فانتزعوا روحي فكشطوها عني، ثم وضعه ملك الموت على جمرة من جمار جهنم ثم لفه في قطع مسح من مسوح جهنم، فرفعوا روحي إلى السماء فمنعتهم السماء أن يدخل، وأغلقت الأبواب دونه، فأتاني نداء أن ردوا هذه النفس الخاطئة إلى مثواها ومأواها. ثم ساق الخبر بطوله في نحو ورقتين. وقد رواه أبو نعيم في الحلية من هذا الطريق، وأورده بطوله. وروى أبو نعيم أيضا عن كعب قال: مر عيسى بجمجمة بيضاء فقال: يا رب هذه الجمجمة أحيها، فأوحى الله إليه أن أشح بوجهك، قال ففعل، ثم حول وجهه فإذا شيخ متكئ على كاوة من بقل ثم ساقه .

(فهذه داهية يلقاها العصاة، ويكفاها المطيعون، فقد حكى الأنبياء مجرد سكرة النزع دون الروعة التي يدركها من يشاهد صورة ملك الموت كذلك، ولو رآها في منامه ليلة لتنغص عليه بقية عمره، فكيف برؤيته في مثل تلك الحال. وأما المطيع فإنه يراه في أحسن صورة وأجملها، فقد روى عكرمة ) أبو عبد الله القرشي، المدني، مولى ابن عباس، روى له الجماعة، وأخرج له مسلم مقرونا بطاوس، وسعيد بن جبير (عن ابن عباس ) رضي الله عنه (أن إبراهيم عليه السلام كان رجلا غيورا، وكان له بيت يتعبد فيه، فإذا خرج أغلقه، فرجع ذات يوم فإذا برجل في جوف البيت فقال: من أدخلك داري؟ فقال: أدخلنيها ربها، فقال: أنا ربها، فقال: أدخلنيها من هو أملك بها مني ومنك، فقال: من أنت من الملائكة؟ قال: أنا ملك الموت، قال: هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن؟ قال: نعم، فأعرض عني، فأعرض، ثم التفت فإذا هو بشاب فذكر من حسن وجهه، وحسن ثيابه، وطيب ريحه، فقال: يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن عند الموت إلا صورتك كان حسبه ) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت، وهو بعض سياق من الخبر السابق ذكره، وروى نحوه من رواية كعب، ومن رواية عبيد بن عمير، وكل ذلك ذكر قريبا .




الخدمات العلمية