الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونحن نورد من أوصاف المجتهدين وفضائلهم ما يحرك رغبة المريد في الاجتهاد اقتداء بهم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أقواما يحسبهم الناس مرضى وما هم بمرضى قال الحسن أجهدتهم العبادة وقال الله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة قال الحسن يعملون ما عملوا من أعمال البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طوبى لمن طال عمره وحسن عمله .

ويروى أن الله تعالى يقول لملائكته ما بال عبادي مجتهدين فيقولون إلهنا خوفتهم شيئا فخافوه وشوقتهم إلى شيء فاشتاقوا إليه فيقول الله تبارك وتعالى فكيف لو رآني عبادي لكانوا أشد اجتهادا .

وقال الحسن أدركت أقواما وصحبت طوائف منهم ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شيء منها أدبر ولهي كانت أهون في أعينهم من هذا التراب الذي تطئونه بأرجلكم أن كان أحدهم ليعيش عمره كله ما طوي له ثوب ولا أمر أهله بصنعة طعام قط ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا قط وأدركتهم عاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم إذا عملوا الحسنة فرحوا بها ودأبوا في شكرها وسألوا الله أن يتقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله تعالى أن يغفرها لهم والله ما زالوا كذلك وعلى ذلك ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة ويحكى أن قوما دخلوا على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه وإذا فيهم شاب ناحل الجسم فقال عمر له يا فتى ما الذي بلغ بك ما أرى فقال يا أمير المؤمنين أسقام وأمراض فقال سألتك بالله إلا صدقتني فقال يا أمير المؤمنين ذقت حلاوة الدنيا فوجدتها مرة وصغر عندي زهرتها وحلاوتها واستوى عندي ذهبها وحجرها وكأني أنظر إلى عرش ربي والناس يساقون إلى الجنة والنار فأظمأت لذلك نهارى وأسهرت ليلي وقليل حقير كل ما إنا فيه في جنب ثواب الله وعقابه وقال أبو نعيم كان داود الطائي يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز فقيل له في ذلك فقال بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية .

ودخل رجل عليه يوما فقال إن في سقف بيتك جذعا مكسورا فقال يا ابن أخي إن لي في البيت منذ عشرين سنة ما نظرت إلى السقف .

التالي السابق


(ونحن نورد من أوصاف المجتهدين وفضائلهم ما يحرك رغبة المريد في الاجتهاد اقتداء بهم فقد قال صلى الله عليه وسلم رحم الله أقواما يحسبهم الناس مرضى وما هم بمرضى ) قال العراقي لم أجد له أصلا في حديث مرفوع ولكن رواه أحمد في الزهد موقوفا على علي في كلام له قال فيه ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض . اهـ .

قلت بل أخرجه ابن المبارك في الزهد عن الحسن مرسلا إلا أنه قال قوما بدل أقواما وكلام على المذكور أورده الشريف في نهج البلاغة (قال الحسن ) البصري رحمه الله تعالى بعد أن روى الحديث المذكور ما معناه (أجهدتهم العبادة ) حتى كأنهم أصابهم المرض فنحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم .

(وقال الله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة قال الحسن ) في تفسير هذا القول يعني (يعملون ما عملوا من أعمال البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله ) ، رواه ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير .

(وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ) قال [ ص: 121 ] العراقي رواه الطبراني من حديث عبد الله بن بسر وفيه بقية وقد رواه بصيغة عن وهو مدلس وللترمذي من حديث أبي بكرة خير الناس من طال عمره وحسن عمله . اهـ .

قلت حديث عبد الله بن بسر رواه أبو نعيم في الحلية وحديث أبي بكرة رواه أيضا أحمد وابن زنجويه والطبراني والحاكم والبيهقي بزيادة وشر الناس من طال عمره وساء عمله وقال الترمذي حسن صحيح ، وقد روى الجملة الأولى فقط أحمد وعبد بن حميد والترمذي وقال حسن غريب والطبراني والبيهقي والضياء من حديث عبد الله بن بسر وفي الباب عن ابن عمر رواه القضاعي في مسند الشهاب والديلمي في مسند الفردوس وعن جابر رواه الحاكم وعن أبي هريرة رواه أحمد والبزار وألفاظهم مختلفة وقد تقدم (ويروى ) في بعض الأخبار (إن الله تعالى يقول لملائكته ما بال عبادي مجتهدين فيقولون إلهنا خوفتهم شيئا فخافوه وشوقتهم إلى شيء فاشتاقوا إليه فيقول الله تبارك وتعالى فكيف لو رآني عبادي لكانوا أشد اجتهادا ) نقله صاحب القوت .

(وقال الحسن ) البصري رحمه الله تعالى (أدركت أقواما وصحبت طوائف منهم ) يعني بهم الصحابة وكبار التابعين (ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شيء منها أدبر ولهي كانت أهون في عينهم من هذا التراب الذي تطؤونه بأرجلكم إن كان أحدهم ليعيش عمره كله ما طوي له ثوب ) أي : لاقتصاره على الثوب الواحد (ولا أمر أهله بصنعة طعام قط ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا قط ) أي : حائلا من فرش غير ثوبه الذي على بدنه (وأدركتهم عاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم ) صلى الله عليه وسلم (إذا جاءهم الليل فقيام على أطرافهم ) يصلون (يفترشون وجوههم ) إشارة إلى كثرة السجود (تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم ) أي : يتضرعون (في فكاك رقابهم إذا عملوا الحسنة فرحوا بها ) حيث وفقهم الله تعالى لها (ودأبوا في شكرها وسألوا الله أن يقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله أن يغفرها لهم والله ما زالوا كذلك ) أي : مداومين (وعلى ذلك ) أي : مستقيمين (ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة ) نقله صاحب القوت هكذا مجموع ، وقد روي ذلك عن الحسن بأسانيد متفرقة قال أحمد في الزهد حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا هشام بن حسان سمعت الحسن يقول والله لقد أدركت أقواما ما طوي لأحدهم في بيته ثوب قط وما أمر في أهله بصنعة طعام قط وما جعل بينه وبين الأرض شيئا قط وإن كان أحدهم يقول لوددت أني أكلت أكلة تصير في جوفي مثل الآجرة قال ويقول بلغنا أن الآجرة تبقى في الماء ثلثمائة سنة وروى أبو نعيم من طريق الفضيل بن عياض عن هشام عن الحسن قال لقد أدركت أقواما ما كانوا يفرحون بما أقبل عليهم من الدنيا ولا يأسون بما أدبر منها (ويحكى أن قوما دخلوا على عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (يعودونه في مرضه وإذا فيهم شاب ناحل الجسم ) أي : متغيره (فقال له عمر يا فتى ما الذي بلغ بك ما أرى فقال يا أمير المؤمنين أسقام وأمراض فقال سألتك بالله إلا ما صدقتني ) وكأنه تفرس فيه أن هذا النحول ليس عن مرض طبيعي (قال يا أمير المؤمنين ذقت حلاوة الدنيا فوجدتها مرة وصغر عندي زهرتها ) أي : زينتها (وحلاوتها واستوى عندي ذهبها وحجرها وكأني أنظر إلى عرش ربي والناس يساقون إلى الجنة والنار فأظمأت لذلك نهاري ) بالصيام (وأسهرت ليلي ) بالقيام (وقليل حقير كل ما أنا فيه ) من الاجتهاد (في جنب ثواب الله وعقابه ) ، وقد روى أبو نعيم في ترجمة عمر بن عبد العزيز ما يشبه هذا السياق ويدل على شدة اجتهاده قال أخبرنا محمد بن إبراهيم في كتابه حدثنا أحمد بن محمد حدثنا السري بن عاصم حدثنا إبراهيم بن هراسة عن الثوري عن أبي الزناد عن أبي حازم الأسدي الخناصري قال قدمت على عمر بن عبد العزيز بخناصرة وهو يومئذ أمير المؤمنين فلما نظر إلي عرفني ولم أعرفه فقال لي ادن يا أبا حازم فلما دنوت منه عرفته فقلت أنت أمير المؤمنين قال نعم قلت ألم تكن عندنا بالأمس أميرا لسليمان بن عبد الملك وكان [ ص: 122 ] مركبك وطيا وثوبك نقيا ووجهك بهيا وطعامك هنيا وقصرك مشيدا وحديثك كثيرا فما الذي غير ما بك وأنت أمير المؤمنين فقال أعد علي الحديث الذي حدثتنيه بالمدينة فقلت نعم يا أمير المؤمنين سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن بين أيديكم عقبة كؤودا مضرسة لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول قال فبكى أمير المؤمنين بكاء عاليا حتى علا نحيبه ثم قال يا أبا حازم أفتلومني أن أضمر نفسي لتلك العقبة لعلي أن أنجو منها وما أظنني منها بناج .

(وقال أبو نعيم ) أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني رحمه الله تعالى صاحب الحلية (كان داود ) بن نصير (الطائي ) رحمه الله تعالى (يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز فقيل له في ذلك فقال بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية ) ، رواه أبو نعيم في الحلية فقال حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا محمد بن عبد الله بن مصعب حدثنا علي بن حرب حدثنا إسماعيل بن الريان قال قالت داية داود الطائي يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز قال يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا عباس بن حمدان الحنفي حدثنا الحضرمي بالبصرة حدثنا نصر بن عبد الرحمن حدثنا عامر بن إسماعيل الأحمسي قال قلت لداود الطائي بلغني أنك تأكل هذا الخبز اليابس تطلب به الخشونة فقال سبحان الله كيف وقد ميزت بين أكل الخبز اليابس وبين اللبن فإذا هو قراءة مائتي آية ولكن ليس لي من يخبز فربما يبس علي (ودخل رجل عليه يوما فقال إن في سقف بيتك جذعا مكسورا فقال يا ابن أخي إن لي في البيت منذ عشرين سنة ما نظرت إلى السقف) .




الخدمات العلمية