الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفاة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه .

لما احتضر أبو بكر رضي الله تعالى عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت .

:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فكشف عن وجهه وقال : ليس كذا ، ولكن قولي : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما وكفنوني فيهما ، فإن الحي إلى الجديد أحوج من الميت .

وقالت عائشة رضي الله عنها عند موته .

:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه     ربيع اليتامى عصمة للأرامل

فقال أبو بكر : ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم
ودخلوا عليه فقالوا : ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك ؟ قال : قد نظر إلي طبيبي وقال : إني فعال لما أريد .

ودخل عليه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه يعوده ، فقال : يا أبا بكر أوصنا ، فقال : إن الله فاتح عليكم الدنيا فلا تأخذن منها إلا بلاغك ، واعلم أن من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا تخفرن الله في ذمته فيكبك في النار على وجهك .

ولما ثقل أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأراد الناس منه أن يستخلف فاستخلف عمر رضي الله عنه ، فقال الناس له : استخلفت علينا فظا غليظا فماذا تقول لربك ؟ فقال : أقول استخلفت على خلقك خير خلقك .

ثم أرسل إلى عمر رضي الله عنه فجاء فقال : إني موصيك بوصية : اعلم إن لله حقا في النهار لا يقبله في الليل ، وأن لله حقا في الليل لا يقبله في النهار ، وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة ، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل ، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباع الباطل وخفته عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف ، وإن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم ، فيقول القائل : أنا دون هؤلاء ولا أبلغ مبلغ هؤلاء ، فإن الله ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم صالح الذي عملوا فيقول القائل : أنا أفضل من هؤلاء ، وإن الله ذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون المؤمن راغبا راهبا ولا يلقي بيديه إلى التهلكة ولا يتمنى على الله غير الحق .

فإن حفظت وصيتي هذه فلا يكون غائب أحب إليك من الموت ولا بد لك منه ، وإن ضيعت وصيتي فلا يكون غائب أبغض إليك من الموت ولا بد لك منه ولست بمعجزه .

وقال سعيد بن المسيب لما احتضر أبو بكر رضي الله عنه أتاه ناس من الصحابة فقالوا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم زودنا فإنا نراك لما بك فقال أبو بكر : من قال هؤلاء الكلمات ثم مات جعل الله روحه في الأفق المبين ، قالوا : وما الأفق المبين ؟ قال : قاع بين يدي العرش فيه رياض الله وأنهار وأشجار ، يغشاه كل يوم مائة .

رحمة فمن قال هذا القول جعل الله روحه في ذلك المكان اللهم إنك ابتدأت الخلق من غير حاجة بك إليهم ، ثم جعلتهم فريقين فريقا للنعيم وفريقا للسعير ، فاجعلني للنعيم ولا تجعلني للسعير ، اللهم إنك خلقت الخلق فرقا وميزتهم قبل أن تخلقهم فجعلت منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا ، فلا تشقني بمعاصيك .

اللهم إنك علمت ما تكسب كل نفس قبل أن تخلقها فلا محيص لها مما علمت فاجعلني ممن تستعمله بطاعتك ، اللهم إن أحدا لا يشاء حتى تشاء فاجعل مشيئتك أن أشاء ما يقربني إليك .

اللهم إنك قد قدرت حركات العباد فلا يتحرك شيء إلا بإذنك فاجعل حركاتي في تقواك ، اللهم إنك خلقت الخير والشر وجعلت لكل واحد منهما عاملا يعمل به فاجعلني من خير القسمين ، اللهم إنك خلقت الجنة والنار وجعلت لكل واحدة منهما أهلا فاجعلني من سكان جنتك .

اللهم إنك أردت بقوم الضلال وضيقت به صدورهم فاشرح صدري للإيمان وزينه في قلبي ، اللهم إنك دبرت الأمور وجعلت مصيرها إليك فأحيني بعد الموت حياة طيبة وقربني إليك زلفى ، اللهم من أصبح وأمسى ثقته ورجاؤه غيرك فأنت ثقتي ورجائي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . قال أبو بكر هذا كله في كتاب الله ، عز وجل .

التالي السابق


* (وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه) *

(لما احتضر أبو بكر -رضي الله عنه- جاءت عائشة -رضي الله عنها- فتمثلت بهذا البيت:


لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر



فكشف عن وجهه وقال: ليس كذا، ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي إلى الجديد أحوج من الميت) رواه صاحب كتاب المتفجعين عن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني، حدثنا خلف بن هشام، حدثنا خالد عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهي، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لأبي بكر في مرضه:


أباوي ما يغني الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر



فقال لها أبو بكر: لا تقولي ذلك ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد انظري يا بنية ثوبي هذين اغسليهما فكفنيني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد، إنما هما للمهل، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين عن خلف بن هشام، حدثنا أبو شهاب الحناط، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي، قال: لما احتضر أبو بكر. فساقه كما للمصنف، وفي آخره: هذه قراءة أبي بكر: "سكرة الحق بالموت" ورواه ابن الجوزي من طريقه ورواه أحمد وابن جرير من هذا الوجه، إلا أنهما قالا: تمثلت عائشة بهذا البيت

أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى



وفيه: فقال أبو بكر ليس كذلك يا بنية ولكن قولي، وقال أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف: حدثنا محمد بن فضيل، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما حضر أبو بكر قال: في كم كفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: في ثلاثة أثواب سحول، قال: فنظر إلى ثوب خلق عليه فقال: اغسلوا هذا وزيدوا عليه ثوبين آخرين، فقلت: بل نشتري لك ثيابا جددا، فقال: الحي أحق بالجديد من الميت إنما هي للمهلة.

قال: وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال أبو بكر: في كم كفنتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقلت: في ثلاثة أثواب، قال: فاغسلوا ثوبي هذين واشتروا لي ثوبا من السوق، قالت: إنا موسرون، قال: يا بنية، الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة [ ص: 307 ] والصديد، قال: وحدثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: كفن أبو بكر في ثوبين سحوليين ورداء له ممشق أمر به أن يغسل، وقال أحمد في الزهد: حدثنا محمد بن مبشر، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن أبا بكر -رضي الله عنه- لما حضرته الوفاة قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الإثنين، قال: فإن مت من ليلي فلا تنتظروا بي الغد، وإن أحب الأيام والليالي إلي أقربها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال أحمد: وحدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما ثقل أبو بكر -رضي الله عنه- قال أي: يوم هذا؟ قلنا: يوم الإثنين، قال: فأي يوم قبض فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلنا: يوم الإثنين، قال: فإني أرجو ما بيني وبين الليل، قالت: وكان عليه ثوب به ردع من مشق، قال: إذا أنا مت فاغسلوا ثوبي هذا وضموا إليه ثوبين جديدين وكفنوني في ثلاثة أثواب، فقلنا: أفلا نجعلها جددا كلها؟ قال: لا إنما هي للمهلة، فمات ليلة الثلاثاء.

(وقالت عائشة -رضي الله عنها- عند موته:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل

فقال أبو بكر: ذاك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)
، رواه محمد بن محمد بن الفضل، عن محمد بن علي بن ميمون، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن القاسم بن محمد، أن عائشة تمثلت وأبو بكر -رضي الله عنه- في الموت، فساقه، هكذا رواه أبو عبيد في فضائله وابن المنذر إلا أنهما قالا: "ثمال اليتامى" بدل "ربيع" وفيه: قال أبو بكر: بل جاءت سكرة الحق بالموت ذلك ما كنت منه تحيد، قدم الحق وأخر الموت.

(ودخلوا عليه فقالوا: ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ قال: قد نظر إلي طبيبي وقال: إني فعال لما أريد) رواه أحمد في الزهد، عن وكيع، عن مالك بن مغول، عن أبي السفر، قال مرض أبو بكر فعاده الناس فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد رآني، قالوا فأي شيء قال؟ قال: قال إني فعال لما أريد.

ورواه أبو نعيم من طريقه، وقال ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن مالك، عن أبي السفر قال: دخل على أبي بكر ناس من إخوانه يعودونه في مرضه، فقالوا: يا خليفة رسول الله، ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ قال: قد نظر إلي، قالوا: ماذا قال لك؟ قال: قال إني فعال لما أريد.

(ودخل عليه سلمان الفارسي -رضي الله عنه- يعوده، فقال: يا أبا بكر أوصنا، فقال: إن الله فاتح عليكم الدنيا فلا تأخذن منها إلا بلاغك، واعلم أن من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا تخفرن الله في ذمته فيكبك في النار على وجهك) الشطر الأول منه قد يأتي من حديث سلمان حدثه بذلك عند احتضاره، والشطر الثاني رواه ابن ماجه وابن عساكر من حديث أبي بكر بلفظ: من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في عهده، فمن فعله طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه. وقد روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، روى الطبراني من حديث أبي بكر: من صلى الصبح فهو في ذمة الله، يا ابن آدم لا يطلبنك الله بشيء من ذمته. وفي لفظ: فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار على وجهه. وروى أحمد من حديث ابن عمر: من صلى صلاة الصبح فله ذمة الله، فلا تخفروا الله في ذمته، فإن من أخفر ذمته طلبه الله تعالى حتى يكبه على وجهه، وروى صاحب الحلية من حديث أنس: من صلى صلاة الغداة فهو في ذمة الله فإياكم أن يطلبكم الله بشيء من ذمته، ورواه كذلك أبو يعلى والحكيم.

وروى صاحب الحلية من حديث جندب: من صلى الصبح فهو في ذمته، فإنه من يطلبه في ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم، وعند ابن حبان بلفظ: من صلى الغداة في ذمة الله، فاتق الله يا ابن آدم أن يطلبك الله بشيء من ذمته، وروى الترمذي من حديث أبي هريرة: من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته، ورواه ابن ماجه والطبراني من حديث سمرة بلفظ: فلا يطلبنكم الله، وعند أحمد والروماني من حديث سمرة مثله، وفيه: فلا تخفروا الله في ذمته.

(ولما ثقل أبو بكر -رضي الله عنه- وأراد الناس منه أن يستخلف فاستخلف عمر، فقال الناس له: استخلفت علينا فظا غليظا فماذا تقول لربك؟ فقال: أقول استخلفت على خلقك خير خلقك) رواه صالح بن رستم، عن أبي مليكة، عن عائشة بلفظ: فقالوا يسعك أن تولي علينا عمر وأنت ذاهب إلى ربك فماذا تقول له؟ قال: أجلسوني أجلسوني، أقول: وليت عليهم خيرهم. وروى نحوه أبو عاصم [ ص: 308 ] النبيل، عن عبيد الله بن زياد، عن يوسف بن ماهك، عن عائشة. ورواه سيف في الفتوح، عن عمرو بن محمد ومجالد، عن الشعبي نحوه أطول منه، وفيه: فقالوا: ماذا تقول لربك؟ قال أقول: استخلفت عليهم خير ملك.

قال صاحب كتاب المتفجعين: حدثنا أبو صالح الفراء، حدثنا الهيثم بن جبلة، عن مبارك، عن الحسن، قال: لما احتضر أبو بكر -رضي الله عنه- قال: أيها الناس قد حضرني من أمر الله تعالى وقضائه ما ترون، وإنه لا بد لكم من رجل يلي أمركم، ويصلي بكم، ويقاتل عدوكم، ويقسم بينكم فيئكم، فإن شئتم اجتمعتم فأمرتم فاستعملتم، وإن شئتم أن أجتهد لكم رأيي، فوالله لا آلوكم ونفسي خيرا، قال فبكى الناس وقالوا: أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا، قال فإني أختار لكم عمر بن الخطاب، قال الحسن ودموعه تنحدر من عينيه: فاختار، والله الذي لا إله إلا هو، خيارا يتعرفون منه في كل يوم يأتي عليهم المزيد في دنياهم حتى قتل -رضي الله عنه-.

قال: وحدثنا أبو يعلى محمد بن شداد بن عيسى المسمعي زرقان، حدثنا أبو عبد الرحمن العتبي، حدثنا أبو إبراهيم العامري قال: أوصى أبو بكر الصديق عند وفاته: هذا ما عاهد أبو بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول يوم من الآخرة داخلا فيها وآخر يوم من الدنيا خارجا منها أنه قد ولى عمر بن الخطاب، فإن يعدل ويحسن فذلك ظني به وأملي فيه، وإن خالف فعليه ما اكتسب، ولا أعلم الغيب، وإنما أردت الخير وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

وقال أيضا: حدثنا محمد بن جبلة، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن علوان، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبد الرحمن بن عون، عن أبيه أنه دخل على أبي بكر في مرضه الذي توفي فيه فأصابه ضيق، فقال له عبد الرحمن أصبحت والحمد لله بارئا، قال له أبو بكر: أترى ذلك؟ قال: نعم، قال: إني على ذلك لشديد الوجع، وما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج وتألمون الاضطجاع على الصوف الأزري، ولأن يقام أحدكم على حسك السعدان خير له من المكاثرة، ولأن يقدم أحدكم فتضرب رقبته في غير حد خير له من أن يخوض غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غدا فتصفحونهم عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق إنما هو الفجر أو البحر، فقلت: له خفض عليك يرحمك الله فإن هذا يهيضك على ما بك، إنما الناس في أمرك بين رجلين إما رجل وافقه ما صنعت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو يشير عليك برأيه وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك، ولم تزل صالحا مصلحا مع أنك لا تأسى على شيء من الدنيا، قال أبو بكر: أجل إني لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره قال يحيى: قدم علينا علوان بعد وفاة الليث فسألته فحدثني به كما حدثنا الليث حرفا حرفا، وأخبرني أن اسمه علوان بن داود قلت: ورواه الطبراني مختصرا فقال: حدثنا أبو الزنباع، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني علوان بن داود البجلي، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: دخلت على أبي بكر في مرضه الذي توفي فيه فسلمت عليه، فقال: رأيت الدنيا قد أقبلت ولما تقبل. فساقه إلى قوله: في غمرة الدنيا. قال الذهبي في الضعفاء: علوان بن داود، ويقال: ابن صالح البجلي، قال البخاري: منكر الحديث .

وقال صاحب كتاب المتفجعين أيضا: حدثنا عبيد الله بن محمد، حدثنا محمد بن عبد الله بن السفر أبو عبيد، حدثنا شهاب بن عباد، حدثنا علي بن المنذر القرشي، حدثني عثمان بن يزيد الكناني، عن رجل من قريش، عن معيقيب بن أبي فاطمة، قال: كنت ألي نفقة أبي بكر، فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فوجدت عنده نسوة من بني تيم بن برة عوائد، فهن في جانب البيت وهو مستخل بطلحة بن عبيد الله، وهو يعاتبه في عمر بن الخطاب، فسمعت أبا بكر رافعا صوته يقول: لا ولا كرامة ولا نعمة عني، لو فعلت لخلعت أنفك في قفاك ولما أخذت من أهلك حقا، ولا رفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله الذي يضعك، أتيتني وقد دلكت عينك تريد أن تفتنني عن ديني وتفتاتني عن رأيي، قم لا أقام الله رجليك، فلإن بلغني أنك غمصته أو ذكرته بسوء لألحقنك بحمضات قلة، حيث كنتم ترعون فلا تشبعون، وتوردون فلا تردون، وأنتم تحجون راضون، ستعلمون إذا فقدتموه وفارقتموه كيف تقتلون وأين تقتلون، هو والله خيركم لكم وأنتم والله شرهم لهم، فقام فخرج إذ قيل له هذا عثمان وعلي بالباب فأذن لهما فدخلا فسلما وقالا: كيف تجدك يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال [ ص: 309 ] أجدني وجعا وأظنها هي، قالا: بل العافية إن شاء الله، قال: أنا ميت في مرضي هذا، ثم ذكر لهما رؤيا رآها، ثم قال: فلعلكما تقولان في عمر ما قال طلحة آنفا، قالا: وما قال؟ قال: زعم أن عمر أدناكم بيتا وأقلكم عن الله وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غنى، قال عثمان: كذب طلحة وبئس ما قال، عمر بحيث تحب من فضله وسابقته، وقال علي: إنك طلحة، وبئس ما قال، عمر من سابقته وفضله ولا نعلم إلا خيرا، وقد كان واليا معك تحتظي رأيه فدع عنك مخاطبة الرجال، وامض لما أردت، فإن يكن ما أردت فله عمدت. وإن يكن ما لا يكون إن شاء الله فلا نعلمك أردت إلا خيرا، قال: رحمكما الله، ونهضا .

والتفت إلي فقال: يا ابن أبي فاطمة، ما يقول الناس في عمر، قلت: أحبه قوم وكرهه آخرون، قال: فمن أحبه أكثر أم من كرهه؟ قلت: بل من كرهه أكثر، فوجم لها، ثم قال: قد يحب الشر ويكره الخير، فلم ألبث أن قيل هذا عمر بالباب، فندمت على ما فرط مني، وكان عمر لي صديقا، فأذن له فدخل فقال: يا عمر، خافك الناس، كرهك الناس، قال عمر: نحها عني يا خليفة رسول الله فلا حاجة لي، قال: اسكت لا سكت، لكن بها إليك أعظم الحاجة، قال له: كيف تجدك؟ قال: أجدني وجعا وأظنها هي، وقص رؤياه عليه، قال عمر: ما أرى بك بأسا وما أتهمك على الله والخوف من الموت، وإن خير يوميك اليوم الذي تقدم فيه على ربك، قال أبو بكر -رضي الله عنه- :وددت أنه كذلك فلم أبال متى مت .

قال: فإن كنت ترى أنك ميت فذم لي في أهل دباء، قال: إليك عني فطالما خاطبتني في أهل دباء ولم أر سواك خاطبني فيهم، وما ترددت في شيء ترددي فيهم، ولكن احفظ عني إذا حببت: فلتهجر يدك فاك حتى يشبع من حببت له، فإن نازعتك نفسك في مشاركتهم فشاركهم غير مستأثر عليهم، وإياك والذخيرة، فإن ذخيرة الإمام تهلك دينه وتسفك دمه .

وخرج عمر - رضي الله عنه- فالتفت إلي فقال: ما الحساب بيننا وبينك؟ قلت: بقيت لي عليك ثمانية عشر درهما أنت منها في حل، فقال: مه، لا تزودني حراما، يا عائشة ائتيني بثمانية عشر درهما، فدفعها إلي وخرجت، فكان آخر العهد به -رضي الله عنه- .

(ثم أرسل إلى عمر -رضي الله عنه- فجاء فقال: إني موصيك بوصية: اعلم أن لله حقا في النهار لا يقبله في الليل، وأن له حقا في الليل لا يقبله في النهار، وأنه لا يقبل النافلة حتى توفى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباع الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف، وإن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم، فيقول القائل: أنا دون هؤلاء ولا أبلغ مبلغ هؤلاء، وإن الله ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم صالح الذي عملوا فيقول القائل: أنا أفضل من هؤلاء، وإن الله ذكر آية الجنة وآية العذاب ليكون المؤمن راغبا زاهدا ولا يلقي بيديه إلى التهلكة ولا يتمنى على الله غير الحق، فإن حفظت وصيتي فلا يكون غائب أحب إليك من الموت ولا بد، وإن ضيعت وصيتي فلا يكون غائب أبغض إليك من الموت ولست بمعجزه) .

رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف فقال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زبيد قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة أرسل إلى عمر فقال: إني موصيك بوصية إن حفظتها فساقه، وفيه: ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بصالح ما عملوا، وفيه: وذكر أهل النار بسيئ ما عملوا، وفيه: فيكون المؤمن راغبا راهبا، وفي آخره: ولن يعجزه، والباقي سواء .

ورواه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا مطر بن خليفة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط، قال: لما حضر أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- الموت دعا عمر فقال له: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل. فساقه، وفيه: وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا، وإن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأخاف أن لا ألحق بهم، وإن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء، ليكون العبد راغبا راهبا. والباقي سواء .

(وقال سعيد بن المسيب) -رحمه الله تعالى- (لما احتضر أبو بكر -رضي الله عنه- أتاه ناس من أصحابه) عابدين (قالوا يا خليفة رسول الله زودنا فإنا نراك لما بك، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: [ ص: 310 ] من قال هؤلاء الكلمات ثم مات جعل الله روحه في الأفق المبين، قالوا: وما الأفق المبين؟ قال: قاع) أي: موضع واسع (بين يدي العرش فيه رياض وأنهار وأشجار، يغشاه كل يوم مائة رحمة فمن قال هذا القول جعل الله روحه في ذلك المكان) وهي هذه (اللهم أنت ابتدأت الخلق من غير حاجة بك إليهم، ثم جعلتهم فريقين فريقا للنعيم وفريقا للسعير، فاجعلني للنعيم ولا تجعلني للسعير، اللهم إنك جعلت الخلق فرقا وميزتهم قبل أن تخلقهم فجعلت منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا، فلا تشقني بمعاصيك، اللهم إنك علمت ما تكسب كل نفس قبل أن تخلقها فلا محيص لما عملت فاجعلني ممن تستعمله بطاعتك، اللهم إن أحدا لا يشاء حتى تشاء فاجعل مشيئتك أن أشاء ما يقربني إليك، اللهم إنك قدرت حركات العباد فلا يعجزك شيء إلا بإذنك فاجعل حركاتي في تقواك، اللهم إنك خلقت الخير والشر وجعلت لكل واحد منهما عاملا يعمل به فاجعلني من خير القسمين، اللهم إنك خلقت الجنة والنار وجعلت لكل واحدة منهما أهلا فاجعلني من سكان جنتك، اللهم إنك أردت بقوم الضلال وضيقت به صدورهم فاشرح صدري للإيمان وزينه في قلبي، اللهم إنك دبرت الأمور فجعلت مصيرها إليك فأحيني بعد الموت حياة طيبة وقربني إليك زلفى، اللهم ومن أصبح وأمسى ثقته ورجاؤه غيرك فإنك ثقتي ورجائي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال أبو بكر) -رضي الله عنه- (هذا كله في كتاب الله، عز وجل) أي: معانيها منتزعة منه، وما ذكره من الجزاء المترتب لقائل هذه الكلمات مثله لا يكون من قبل الرأي، والله أعلم .




الخدمات العلمية