الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان المبادرة إلى العمل وحذر آفة التأخير .

اعلم أن من له أخوان غائبان وينتظر قدوم أحدهما في غد ، وينتظر قدوم الآخر بعد شهر أو سنة ، فلا يستعد للذي يقدم إلى شهر أو سنة ، وإنما يستعد للذي ينتظر قدومه غدا ، فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار . فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة اشتغل قلبه بالمدة ، ونسي ما وراء المدة ، ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها ، لا ينقص منها اليوم الذي مضى . وذلك يمنعه من مبادرة العمل أبدا ، فإنه أبدا يرى لنفسه متسعا في تلك السنة فيؤخر العمل ; كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مقيدا أو موتا مجهزا أو الدجال ; فالدجال شر غائب ينتظر أو الساعة ، والساعة أدهى وأمر وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه : اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك وقال صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ أي: أنه لا يغتنمهما ثم يعرف قدرهما عند زوالهما .

وقال صلى الله عليه وسلم : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة .

وقال صلى الله عليه وسلم : جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، وجاء الموت بما فيه .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آنس من أصحابه غفلة أو غرة نادى فيهم بصوت رفيع : أتتكم المنية راتبة لازمة إما بشقاوة ، وإما بسعادة .

وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا النذير ، والموت المغير ، والساعة الموعد .

وقال ابن عمر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس على أطراف السعف ، فقال : ما بقي من الدنيا إلا مثل ما بقي من يومنا هذا في مثل ما مضى منه .

وقال صلى الله عليه وسلم : مثل الدنيا كمثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقا بخيط في آخره ، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع .

وقال جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فذكر الساعة رفع صوته ، واحمرت وجنتاه ، كأنه منذر جيش ، يقول : صبحتكم ، ومستكم ، بعثت أنا والساعة كهاتين ، وقرن بين إصبعيه .

التالي السابق


* (الفصل الرابع في بيان المبادرة إلى العمل وحذر آفة التأخير ) *

(اعلم ) بصرك الله تعالى بنور توفيقه (أن من له أخوان غائبان ينتظر قدوم أحدهما في غد، وينتظر قدوم الآخر بعد شهر أو سنة، فلا يستعد للذي يقدم عليه إلى شهر وسنة، وإنما يستعد للذي ينتظر قدومه غدا، فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار. فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة اشتغل قلبه بالمدة، ونسي ما وراء المدة، ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها، لا ينقص منها اليوم الذي مضى. وذلك يمنعه من مبادرة العمل أبدا، فإنه أبدا يرى لنفسه متسعا في تلك السنة فيؤخر العمل; كما قال صلى الله عليه وسلم: ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيا ) أي يكسبه الطغيان عن الحدود (أو فقرا منسيا ) عن أمور الآخرة (أو مرضا مفسدا ) لحاله (أو هرما مفندا ) أي مورثا للفند محركة وهو ضعف الرأي والخطأ فيه (أو موتا مجهزا ) أي سريعا (أو الدجال; فالدجال شر غائب ينتظر أو الساعة، والساعة أدهى وأمر ) .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي هريرة: "هل تنتظرون من الدنيا إلا غنى..." الحديث. وقال: حسن. ورواه ابن المبارك في الزهد، ومن طريقه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل بلفظ المصنف، وفيه من لم يسم اهـ. قلت: وروى هناد بن السري في الزهد، ومن طريقه صاحب الحلية قال: حدثنا ابن المبارك عن شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: "ما ننتظر من الدنيا إلا كلا محزنا أو فتنة [ ص: 253 ] تنتظر.

(وقال ابن عباس ) رضي الله عنه (قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: اغتنم خمسا قبل خمس ) أي فعل خمسة أشياء قبل حصول خمسة أشياء (شبابك قبل هرمك ) أي اغتنم الطاعة حال قدرتك قبل هجوم عجز الكبر عليك فتندم على ما فرطت في جنب الله (وصحتك قبل سقمك ) أي اغتنم العمل حال الصحة، فقد يعرض مانع كمرض فتقدم المعاد بغير زاد (وغناك قبل فقرك ) أي اغتنم التصدق بفضول مالك قبل عروض جائحة تفقرك، فتصير فقيرا في الدنيا والآخرة (وفراغك قبل شغلك ) أي اغتنم فراغك في هذه الدار قبل شغلك بأهوال القيامة التي أول منازلها القبر، فاغتنم فرصة الإمكان لعلك تسلم من العذاب والهوان (وحياتك قبل موتك ) أي اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك، فإن من مات انقطع عمله، وفاته أمله، وحق ندمه، وتوالى همه، فاقترض منك لك; فهذه الخمسة لا يعرف قدرها إلا بعد زوالها. قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل بإسناد حسن، ورواه ابن المبارك في الزهد من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلا اهـ. قلت: ورواه أيضا الحاكم في الرقاق، والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس، وقال الحاكم على شرطهما، وأقره الذهبي في التلخيص، ورواه أحمد في الزهد، والنسائي في المواعظ، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي عن عمرو بن الميمون مرسلا. ولفظ الجميع: "اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك".

(وقال صلى الله عليه وسلم: نعمتان ) من نعم الله تعالى كما في رواية (مغبون فيهما ) من الغبن بالسكون والتحريك، قال الجوهري: في البيع بالسكون، وفي الرأي بالتحريك، فيصح كل هنا إذ من لا يستعملها فيما ينبغي فقد غبن، ولم يحمد رأيه (كثير من الناس الصحة والفراغ ) من الشواغل الدنيوية المانعة عن أمور الآخرة. شبه المكلف بالتاجر، والصحة والفراغ برأس المال، لكونهما من أسباب الأرباح، ومقدمات النجاح، فمن عامل الله بامتثال أوامره ربح، ومن عامل الشيطان باتباعه ضيع رأس ماله، ونبه بكثير على أن الموفق لذلك قليل. رواه البخاري، والترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن العباس، وقد تقدم. ويروى: "نعمتان الناس فيهما متغابنون: الصحة والفراغ". (أي أنه لا يغتنمهما ثم يعرف قدرهما عند زوالهما ) . وقال الحسن: "يقول ابن آدم نعمتان عظيمتان المغبون فيهما: كثير الصحة، والفراغ، فمهلا مهلا، الثواء هنا قليل". أخرجه العسكري في الأمثال، وقال: الصحة عند بعضهم الشباب. قال: والعرب تجعل مكان الصحة الشباب .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من خاف أدلج ) أي سار من أول الليل، هذا إذا كان بالتخفيف أو معناه سار من آخره إذا كان بالتشديد (ومن أدلج بلغ المنزل ) والمراد التشمير في الطاعة. والمعنى: من خاف ألزمه خوفه السلوك إلى الآخرة، والمبادرة للعمل الصالح، خوف القواطع والعوائق (ألا إن سلعة الله غالية ) أي رفيعة القدر (ألا إن سلعة الله الجنة ) . قال الطيبي: هذا مثل ضربه لسالك الآخرة، فإن الشيطان على طريقه، والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في سيره، وأخلص في عمله، أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق اهـ. وقال العلاء: أخبر أن الخوف من الله هو المقتضي للسير إليه، بالعمل الصالح المشار إليه بالإدلاج، وعبر ببلوغ المنزل عن النجاة المترتبة على العمل الصالح، وأصل ذلك كله الخوف. قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: حسن. قلت: وكذلك رواه الرامهرمزي في الأمثال، والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، ورواه الحاكم أيضا، وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي بن كعب، وقال الصدر المناوي في تخريج المصابيح في مسند الترمذي، والحاكم: يزيد بن سنان ضعفه أحمد وابن المديني اهـ. وقال ابن طاهر: يزيد متروك، والحديث لا يصح مسندا، وإنما هو من كلام أبي ذر.

(وقال صلى الله عليه وسلم: جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، وجاء الموت بما فيه ) . قال العراقي: رواه الترمذي، وحسنه من حديث أبي بن كعب اهـ. قلت: ولفظه كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ربع الليل قام فقال: "أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه". وكذلك رواه أحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وفي رواية تكرار ذلك مرتين في كل كلمة. ورواه الطبراني من طريق أبي نعيم في الحلية فقال: حدثنا حفص بن عمر حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان النوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل [ ص: 254 ] عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ربع الليل فساقه وزاد يقولها ثلاثا. والمراد بالراجفة النفخة الأولى، والرادفة النفخة الثانية. رواه عبد بن حميد عن أبي صالح وعن الحسن.

(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنس من الناس غفلة أو غرة نادى فيهم بصوت رفيع: أتتكم المنية راتبة لازمة إما بشقاوة، وإما بسعادة ) . قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل من حديث زيد السليمي مرسلا اهـ. قلت: وكذلك رواه البيهقي في الشعب، وروى البيهقي أيضا عن الوضين بن عطاء قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أحس من الناس بغفلة من الموت جاء فأخذ بعضادتي الباب ثم هتف ثلاثا: "يا أيها الناس، يا أهل الإسلام، أتتكم المنية راتبة لازمة، جاء الموت بما جاء به، جاء بالروح والراحة والكرة المباركة لأولياء الرحمن من أهل الخلود، الذين كان سعيهم ورغبتهم فيها لها، ألا إن لكل ساع غاية، وغاية كل ساع الموت سابق ومسبوق.

(وقال أبو هريرة ) رضي الله عنه: (قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أنا النذير، والموت المغير، والساعة الموعد ) . قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل بإسناد فيه لين اهـ. قلت: وكذلك رواه أبو يعلى في مسنده. وقال محمود بن محمد في كتاب المتفجعين: حدثنا عبيد الله بن محمد حدثنا يحيى بن بكير وسويد بن سعيد قالا حدثنا ضمام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة قال: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين قال نبي الله- صلى الله عليه وسلم-: "يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، أنا النذير، وإلى الموت المصير، والساعة الموعد".

(وقال ابن عمر ) رضي الله عنه: (خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والشمس على أطراف السعف، فقال: ما بقي من الدنيا إلا كما بقي من يومنا فيما مضى منه ) . قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل بإسناد حسن، والترمذي نحوه من حديث أبي سعيد وحسنه اهـ. قلت: ورواه الحاكم من حديث ابن عمر بلفظ: "يا أيها الناس لم يبق من دنياكم هذه إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه". وأما حديث أبي سعيد فقد رواه أحمد بلفظ: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العصر نهارا، ثم قام فخطبنا فلم يترك شيئا قبل قيام الساعة إلا أخبر به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وجعل الناس يلتفتون إلى الشمس هل بقي منها شيء; فقال: "ألا إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه". وروى الخطيب من حديث عبد الله بن عمر: "وما بقي لأمتي من الدنيا إلا كمقدار الشمس إذا صليت العصر".

(وقال صلى الله عليه وسلم: مثل الدنيا كثوب شق من أوله إلى آخره، فبقي متعلقا بخيط في آخره، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع ) . قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل من حديث أنس، ولا يصح اهـ. قلت: ورواه أيضا البيهقي في الشعب، وفي مسنده يحيى بن سعيد العطار ضعفه ابن عدي. ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية من حديث أبان عن أنس بلفظ: "مثل هذه الدنيا من الآخرة مثل ثوب والباقي سواء". وقال: غريب لم نكتبه إلا من حديث إبراهيم بن أبي الأشعث، وأبان بن أبي عياش لم تثبت صحبته لأنس، كان لهجا بالعبادة، والحديث ليس من شأنه .

(وقال جابر ) رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فذكر الساعة رفع صوته، واحمرت وجنتاه، كأنه منذر جيش، يقول: صبحتكم، ومستكم، بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين إصبعيه ) شبه حاله في خطبته وإنذاره بقرب القيامة، وتهالك الناس فيما يرديهم، بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم يقصد الإحاطة بهم بغتة، بحيث لا يفوته منهم أحد، فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمر عيناه، ويشتد غضبه على تغافلهم، فكذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الإنذار. قال العراقي: رواه مسلم، وابن أبي الدنيا في قصر الأمل واللفظ له اهـ. قلت: ظاهره يقتضي أن صحابي الحديث هو جابر الأنصاري، كما هو المتبادر عند الإطلاق، وليس كذلك، بل هو جابر بن سمرة، كما صرح به مسلم في روايته. وقوله: واللفظ له; يشعر أن هذا السياق ليس عند أحد من الستة، وإلا لما اقتصر على ابن أبي الدنيا، وقد رواه بهذا اللفظ ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، مع زيادة بلفظ: كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين، ويفرق بين أصابعه السبابة والوسطى. ثم يقول: أما بعد; فإن خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. ولفظ مسلم في الجمعة بعد قوله صبحكم ومساكم: [ ص: 255 ] ويقول: أما بعد; فإن خير الحديث كتاب الله إلخ .

وأما لفظ: بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالوسطى والسبابة، فإنه روي هكذا من طرق، فرواه أحمد وعبد بن حميد والشيخان والترمذي والدارمي وابن حبان من حديث أنس، ورواه أحمد وهناد والطبراني والضياء من حديث جابر بن سمرة، ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث بريدة، ورواه أحمد والشيخان وابن حبان من حديث سهل بن سعد، ورواه البخاري وهناد من حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني من حديث المستورد، ورواه ابن ماجه وابن سعد من حديث جابر بن عبد الله.




الخدمات العلمية