الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القسم الثالث : المباحات : وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات ، وينال بها معالي الدرجات فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن سهو وغفلة ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئا من الخطرات والخطوات واللحظات ، فكل ذلك يسأل عنه يوم القيامة أنه لم فعله ؟ وما الذي قصد به ؟ هذا في مباح محض لا يشوبه كراهة ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " حلالها حساب وحرامها عقاب " وفي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد ليسأل يوم القيامة عن كل شيء حتى عن كحل عينيه ، وعن فتات الطينة بإصبعيه ، وعن لمسه ثوب أخيه وفي خبر آخر : " من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك ، ومن تطيب لغير الله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة " فاستعمال الطيب مباح ، ولكن لا بد فيه من نية . فإن قلت : فما الذي يمكن أن ينوي بالطيب وهو حظ من حظوظ النفس وكيف يتطيب لله ؟ فاعلم أن من يتطيب مثلا يوم الجمعة وفي سائر الأوقات يتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا ، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال ليحسده الأقران أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة ، أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحلا للنظر إليهن ، ولأمور أخرى لا تحصى ، وكل هذا يجعل التطيب معصية ، فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم ، فإن ذلك ليس بمعصية إلا أنه يسأل عنه ، ومن نوقش الحساب عذب ومن أتى شيئا من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره وناهيك خسرانا بأن يستعجل ما يفنى ويخسر زيادة نعيم لا يفنى .

وأما النيات الحسنة ، فإنه ينوي به اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وينوي بذلك أيضا تعظيم المسجد ، واحترام بيت الله فلا يرى أن يدخله زائرا لله إلا طيب الرائحة ، وأن يقصد به ترويح جيرانه ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه وأن يقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه وأن يقصد حسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة ، فيعصون الله بسببه ، فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية كما قيل .

:

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم

وقال الله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم أشار به إلى أن التسبب إلى الشر شر وأن يقصد به معالجة دماغه لتزيد به فطنته وذكاؤه ويسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر فقد قال الشافعي رحمه الله : من طاب ريحه زاد عقله .

فهذا وأمثاله من النيات لا يعجز الفقيه عنها إذا كانت تجارة الآخرة وطلب الخير غالبة على قلبه ، وإذا لم يغلب على قلبه إلا نعيم الدنيا لم تحضره هذه النيات ، وإن ذكرت له لم ينبعث لها قلبه ، فلا يكون معه منها إلا حديث النفس وليس ذلك من النية في شيء .

والمباحات كثيرة ، ولا يمكن إحصاء النيات فيها ، فقس بهذا الواحد ما عداه ولهذا قال بعض العارفين من السلف : إني أستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي إلى الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى ؛ لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن فهو معين على الدين ، فمن قصده من الأكل التقوي على العبادة ومن الوقاع تحصين دينه وتطييب قلب أهله والتوصل به إلى ولد صالح يعبد الله تعالى بعده فتكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان مطيعا بأكله ونكاحه وأغلب حظوظ النفس الأكل والوقاع ، وقصد الخير بهما غير ممتنع لمن غلب على قلبه هم الآخرة ولذلك ينبغي أن يحسن نيته مهما ضاع له مال ويقول : هو في سبيل الله وإذا بلغه اغتياب غيره له فليطيب قلبه بأنه سيحمل سيئاته وستنقل إلى ديوانه حسناته ولينوي ، ذلك بسكوته عن الجواب .

ففي الخبر : " إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار ، ثم ينشر له من الأعمال الصالحة ما يستوجب به الجنة ، فيتعجب ويقول : يا رب هذه أعمال ما عملتها قط . فيقال : هذه أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك " وفي الخبر : " إن العبد ليوافي القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له لدخل الجنة ، فيأتي وقد ظلم هذا ، وشتم هذا ، وضرب هذا ، فيقتص لهذا من حسناته ، ولهذا من حسناته ؛ حتى لا يبقى له حسنة ، فتقول الملائكة : قد فنيت حسناته وبقي طالبون ، فيقول الله تعالى : ألقوا عليه من سيئاتهم ثم صكوا له صكا إلى النار " .

التالي السابق


(القسم الثالث: المباحات: وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات، وينال به معالي الدرجات) ، كما روي عن بشر الحافي -رحمه الله تعالى- أنه رؤي ماشيا في طريق الحج فسئل عن ذلك؟ فقال: أريح الجمل وأسر الجمال .

قال العراقي في شرح التقريب: كما اشترطوا النية في العبادة اشترطوا في تعاطي ما هو مباح في نفس الأمر أن لا تكون معه نية تقتضي تحريمه كمن جامع امرأته أو أمته ظانا أنها أجنبية، أو شرب شرابا مباحا وهو ظان أنه خمر، أو أقدم على استعمال ملكه وهو ظان أنه لأجنبي، ونحو ذلك، فإنه يحرم عليه تعاطي ذلك اعتبارا بنيته وإن كان مباحا له في نفس الأمر، غير أن ذلك لا يوجب حدا ولا ضمانا لعدم التعدي في نفس الأمر .

بل زاد بعضهم على هذا بأنه لو تعاطى شرب الماء وهو يعلم أنه ماء ولكنه على صورة استعمال الحرام كشربه في آنية الخمر في صورة مجلس الشراب صار حراما لشبهه بالشربة، وإن كانت النية لا يتصور وقوعها على الحرام مع العلم بحله، ونحوه لو جامع أهله وهو في ذهنه مجامعة من تحرم عليه، وصور في ذهنه أنه يجامع تلك الصورة المحرمة فإنه يحرم عليه ذلك، وكل ذلك لشبهه بصورة الحرام. اهـ .

(فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن سهو وغفلة) وما أعظم حسرته (ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئا من الخطوات والخطرات واللحظات، فكل ذلك يسأل عنه يوم القيامة أنه لم فعله؟ وما الذي قصد به؟ هذا في مباح محض لا تشوبه كراهة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "حلالها حساب وحرامها عقاب") .

قد تقدم للعراقي أنه لم يجده يعني مطلقا مرفوعا، وقد رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب من طريقه عن علي موقوفا بلفظ: "وحرامها النار" وسنده منقطع .

وقد روي من حديث ابن عباس عند الديلمي بلفظ: " يا ابن آدم الدنيا حلالها حساب وحرامها عقاب " ومن حديث أنس عند الحاكم في أثناء الحديث: " أف للدنيا وما فيها من البليات حلالها حساب وحرامها عقاب " .

(وفي حديث معاذ بن جبل) رضي الله عنه (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن العبد ليسأل يوم القيامة عن كل شيء حتى عن كحل عينيه، وعن فتات الطينة بإصبعيه، وعن لمسه ثوب أخيه) نقله صاحب القوت. وقال العراقي : لم أجد له إسنادا .

قلت: بل رواه أبو نعيم في الحلية بلفظ: "يا معاذ إن المؤمن ... لدى الحق أستر" وساق الحديث بتمامه، وفيه: "يا معاذ إن المؤمن ليسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى عن كحل عينيه" الحديث .

(وفي خبر آخر: "من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطيب لغير الله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة") تقدم قريبا أنه من مرسل عبد الله بن أبي طلحة، رواه أبو الوليد الصفار في كتاب الصلاة (فاستعمال الطيب مباح، ولكن لا بد فيه من نية .

فإن قلت: فما الذي يمكن أن ينوى بالطيب وهو حظ من حظوظ النفس وكيف يتطيب لله؟ فاعلم أن من يتطيب مثلا يوم الجمعة وفي سائر الأوقات يتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال لتحسده أقرانه) ولداته، فإنه لا يتنبه الإنسان لشراء الطيب إلا من فاضل المال بعد التفرغ من الحوائج الضرورية، ويدل ذلك على الكثرة، (أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم) فيملكها بذلك، (ويذكر بطيب الرائحة، أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحلا للنظر إليهن، ولأمور أخر لا تحصى، وكل هذا يجعل التطيب معصية، فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة) لأن روائح المعاصي هكذا توجد هناك .

(إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم، فإن ذلك ليس بمعصية إلا أنه يسأل عنه، ومن نوقش الحساب عذب) رواه الشيخان من حديث عائشة، وعند الطبراني من حديث ابن الزبير "من نوقش المحاسبة هلك، ومن أتى شيئا [ ص: 26 ] من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة، ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره" وناهيك خسرانا بأن يستعجل ما يفنى، ويخسر زيادة نعيم لا يفنى فهذه النيات السيئة في استعمال الطيب .

(وأما النيات الحسنة، فإنه ينوي به اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذ قد عرف من طريقته كثرة استعمال الطيب في كل وقت خصوصا (يوم الجمعة) فإنه يوم القربة إلى الله تعالى .

(وينوي بذلك أيضا تعظيم المسجد، واحترام بيت الله) إذ المساجد بيوت الله تعالى (فلا يرى أن يدخله زائرا لله) تعالى (إلا) وهو (طيب الرائحة، وأن يقصد به ترويح جيرانه) في الصف (ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه) الطيبة (وأن يقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه) مما يتحصل من الأعراق ولا سيما زمن الصيف .

(وأن يقصد حسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة، فيعصون الله بسببه، فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية كما قيل:


إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم

وقال الله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم أشار به إلى أن السبب إلى الشر شر) ومن الغريب أن الحافظ العراقي صحف قول المصنف: "وأما النيات الحسنة" بقوله: "وأما الثياب الحسنة" .

وأورد حديث أبي هريرة : " من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه" الحديث. وحديث عبد الله بن سلام : "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة " الحديث .

وحديث عمر في الحلة السيراء، وقوله: " لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة " .

فهذه الأخبار ... وهو صحيح، لكنه غير مراد في سياق المصنف، فتأمل ذلك، وسبحان من لا يسهو .

(وأن يقصد به معالجة دماغه) أي: تقوية جوهره (ليزيد به فطنته وذكاؤه ويسهل عليه) بذلك (درك مهمات دينه بالفكر) الصحيح، (فقد) اتفق الأطباء أن الروائح الطيبة تقوي الدماغ وتصححه .

ومن هنا (قال الشافعي رحمه الله تعالى: من طاب ريحه زاد عقله) نقله البيهقي وغيره في مناقبه .

(فهذا وأمثاله من النيات لا يعجز الفقيه عنها إذا كانت تجارة الآخرة وطلب الخير غالبة على قلبه، وإذا لم يغلب على قلبه إلا نعيم الدنيا لم تحضره هذه النيات، وإن ذكرت له لم ينبعث لها قلبه، فلا يكون معه منها إلا حديث النفس) فقط (وليس هذا من النية في شيء، والمباحات كثيرة، ولا يمكن إحصاء النيات فيها، فقس بهذا الواحد) الذي ذكرناه سائر (ما عداه) مما لم نذكر؛ فإنه لا ينحصر، فكل لتتقو على عبادة الله، ونم لتتقو على قيام الليل، وتنزه لتستعين على العبادة بكنه الهمة؛ فإن القلوب إذا أكرهتها عميت، فاقتصد في دخولك في عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. .

(ولهذا قال بعض العارفين من السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي إلى الخلاء) نقله صاحب القوت هكذا .

وفي موضع: إني لأستعد النية في كل شيء قبل الدخول فيه حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء، والنية في هذا التقوي على الطاعة والاستعانة به على الخدمة؛ لأن النفس مطيتك إن قطعت بها قطعت بك، ونية المتطهر من التخلي لأجل الدين .

(وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى؛ لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن فهو معين على الدين، فمن قصد من الأكل التقوي على العبادة) ومن النوم التقوي على قيام الليل (ومن الوقاع تحصين دينه) بتحصين فرجه (ومن الانبساط تطييب قلب أهله) وإدخال السرور على قلوبهم وغض بصرك وبصر أهلك عن غيرك (والتوصل به) أي بالوقاع (إلى) تحصيل (ولد) صالح (يعبد [ ص: 27 ] الله تعالى بعده) ويدعو له (فتكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم) فتكثر بهم الخيرات (كان مطيعا بأكله ونكاحه) وكذا بنومه وتنزهه وانبساطه .

(و) إنما خص بهما لأن (أغلب حظوظ النفس الأكل والنكاح، وقصد الخير بهما غير ممتنع لمن غلب على قلبه هم الآخرة) وكذا إن أمر بمعروف بنية امتثال أمر الله تعالى لا لعداوة ولا لغضب وحقد، هذا كله في الفعل .

(و) أما في الترك فإنه (كذلك ينبغي أن يحسن نيته مهما ضاع له مال) في بر أو بحر (ويقول: هو في سبيل الله) ويترك الطلب، ولا يتعلق بأسبابه، وكذا إذا سكت عن منكر فليكن لعجز أو انتظار فرصة لا لغش وعدم نصيحة، وإن ترك تجارة أو كسبا فللتوكل على الله، ولفراغ القلب لذكر الله لا للترفع وخوف سقوط المنزلة عند الناس .

وكذا عند ... من الفتوح، وكذا ... فليترك الحزن عليه، ويراعي بقلبه الرضا بقضاء الله تعالى .

(وإذا) خاصمه مخاصم أو (بلغه اغتياب غيره فليطيب قلبه) وليصبر لوجه الله، أو لما أعده الله له (بأنه) أي المغتاب (سيحمل سيئاته) على ظهره (وستنقل إلى ديوانه حسناته، ولينو ذلك بسكوته عن الجواب) فإن عجز عن الصبر لوجه الله فالأفضل الدعاء والترحم عليه حتى لا يعرضه لسخط الله وعقابه بسببه؛ فلعل الله أن يعفو على عباده .

(ففي الخبر: "إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار، ثم ينشر له من الأعمال الصالحة ما يستوجب به الجنة، فيتعجب ويقول: يا رب هذه أعمال ما عملتها. فيقال: هذه أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك") .

ولفظ القوت: ومن أوذي أو اغتيب فليحتسب عرضه عند الله تعالى؛ فلعل ذلك يكون ... سيدا من عمله، وسببا لنجاته؛ فقد روي في الخبر: " إن العبد ليحاسب على أعماله كلها فتبطل بدخول الآفات فيها حتى يستوجب النار، ثم تنشر له أعمال من الحسنات لم يكن عملها، فيقال: هي أعمال الذين اغتابوك وآذوك، جعلت حسناتهم لك " اهـ .

قال العراقي : رواه الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم من حديث شبيب بن سعد البلوي مختصرا: " إن العبد ليلقى كتابه يوم القيامة منتشرا فينظر فيه فيرى حسنات لم يعملها فيقول: هذا لي ولم أعملها، فيقال: بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر " وفيه ابن لهيعة اهـ .

قلت: رواه أبو نعيم في كتاب المعرفة، وكذلك رواه ابن منده من طريق أحمد بن سيار، وراويه شبيب بن سعد بن مالك البلوي قال ابن يونس : له صحبة وشهد فتح مصر، وله ذكر في كتاب الفتوح .

وقال يحيى بن عثمان بن صالح، عن ابن عفير : شهد بيعة الرضوان وفتح مصر، ولا تحفظ له رواية، كذلك قال، وليس كذلك، بل له رواية محفوظة كما ذكرنا، واختلف في ضبطه فقيل: هكذا كما أوردناه بالشين والموحدة كأمير، وضبطه الآمدي هكذا إلا أنه قال: وآخره مثلثة، وقيل: هو بكسر أوله وسكون التحتية، ثم مثناة فوقية. والله أعلم .

وقد روي من حديث أبي أمامة نحو من ذلك ولفظه: " إن العبد ليعطى كتابه يوم القيامة منشورا فيرى فيه حسنات لم يعملها، فيقول: رب لم أعمل هذه الحسنات، فيقول: إنها كتبت باغتياب الناس إياك، وإن العبد ليعطى كتابه يوم القيامة منشورا، فيقول: رب ألم أعمل حسنة يوم كذا وكذا، فيقال له: محيت عنك باغتيابك الناس " رواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق، فيه الحسن بن دينار عن خصيب بن جحدر، فالحسن قال النسائي : متروك، والخصيب كذبه شعبة والقطان .

وروى الحكيم من حديث ابن عمر : " يجاء بالعبد يوم القيامة فتوضع حسناته في كفة وسيئاته في كفة، فترجح السيئات، فتجيء بطاقة في كفة الحسنات فترجح بها، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة، فما من عمل عملته في ليلي أو نهاري إلا وقد استقبلت به؟ قال: هذا ما قيل فيك وأنت منه بريء، فينجو بذلك " .

(وفي الخبر: "إن العبد ليوافي القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له لدخل الجنة، فيأتي وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا، فيقتص لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته؛ حتى لا يبقى له حسنة، فتقول الملائكة: قد فنيت حسناته وبقي طالبون، فيقول الله تعالى: ألقوا عليه من سيئاتهم ثم صكوا له صكا إلى النار") كذا في القوت .

وروى سمويه في فوائده، وأبو نعيم في الحلية، والخطيب في المتفق والمفترق من حديث سالم مولى أبي حذيفة نحوه، بلفظ: " ليجاءن يوم القيامة بقوم معهم من الحسنات أمثال جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل الله أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار " الحديث، وقد تقدم في كتاب [ ص: 28 ] العجب والرياء. وله أيضا شاهد من حديث أبي أمامة الذي ذكر قبل هذا .

وروى صاحب القوت أيضا: " إن العبد ليرى من أعماله الحسنات ما يرجو به المنازل في الجنة، فتلقى عليها سيئات لم يعملها فتترجح بحسناته كلها فيستوجب النار، فيقول: يا رب هذه سيئات ما عملتها، هلكت بها! فيقال: هذه ذنوب القوم الذين اغتبتهم وآذيتهم وظلمتهم ألقيت عليك وتخلصوا منها .

.




الخدمات العلمية