الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما كان النظر في ذات الله تعالى وصفاته مخطرا من هذا الوجه اقتضى أدب الشرع وصلاح الخلق أن لا يتعرض لمجاري الفكر فيه لكنا نعدل إلى المقام الثاني وهو النظر في أفعاله ومجاري قدره وعجائب صنعه وبدائع أمره في خلقه ، فإنها تدل على جلاله وكبريائه وتقدسه وتعاليه ، وتدل على كمال علمه وحكمته وعلى نفاذ مشيئته وقدرته .

فينظر إلى صفاته من آثار صفاته ، فإنا لا نطيق النظر إلى صفاته كما أنا نطيق النظر إلى الأرض مهما استنارت بنور الشمس .

ونستدل ، بذلك على عظم نور الشمس بالإضافة إلى نور القمر وسائر الكواكب لأن الأرض من آثار نور الشمس ، والنظر في الآثار يدل على المؤثر دلالة ما ، وإن كان لا يقوم مقام النظر في نفس المؤثر .

وجميع موجودات الدنيا أثر من آثار قدرة الله تعالى ونور من أنوار ذاته بل لا ظلمة أشد من العدم ولا نور أظهر من الوجود .

ووجود الأشياء كلها نور من أنوار ذاته تعالى وتقدس ، إذ قوام وجود الأشياء بذاته القيوم بنفسه كما أن قوام نور الأجسام بنور الشمس المضيئة بنفسها ومهما انكشف بعض الشمس فقد جرت العادة بأن يوضع طشت ماء حتى ترى الشمس فيه ، ويمكن النظر إليها فيكون الماء واسطة يغض قليلا من نور الشمس حتى يطاق النظر إليها ، فكذلك الأفعال واسطة نشاهد فيها صفات الفاعل ولا نبهر بأنوار الذات بعد أن تباعدنا عنها بواسطة الأفعال .

فهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم : تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله تعالى .

بيان كيفية التفكر في خلق الله تعالى
.

التالي السابق


وقد أشار إلى ذلك أيضا المصنف في إلجام العوام (ولما كان النظر في ذات الله وصفاته مخطرا من هذا الوجه اقتضى أدب الشرع وصلاح الخلق أن لا يتعرض لمجاري الفكر فيه لكنا نعدل إلى المقام الثاني) ، وهو الأدنى بالنسبة إلى المقام الأول (وهو النظر إلى أفعاله وعجائب صنعه وبدائع أمره في خلقه، فإنها تدل على جلاله [ ص: 182 ] وكبريائه وتقدسه وتعاليه، وتدل على كمال علمه وحكمته وعلى نفاذ مشيئته وقدرته فينظر إلى صفاته من آثار صفاته، فإنا لا نطيق النظر إلى صفاته كما أنا نطيق النظر إلى الأرض مهما استنارت بنور الشمس، ويستدل بذلك على عظم نور الشمس بالإضافة إلى نور القمر وسائر الكواكب لأن نور الأرض من آثار نور الشمس، والنظر في الأثر يدل على المؤثر دلالة ما، وإن كان لا يقوم مقام النظر في نفس المؤثر، وجميع موجودات الدنيا أثر من آثار قدرة الله تعالى ونور من أنوار ذاته) قال المصنف في المقصد الأسنى: الحاصل عندنا من قدرة الله تعالى أنه وصف ثمرته وأثر وجود الأشياء، وينطلق عليه اسم القدرة لأنه يناسب قدرتنا وهو بمعزل عن حقيقة تلك القدرة، نعم كما ازداد العبد إحاطة بتفاصيل المقدورات وعجائب الصنائع كان حظه من صفة القدرة أوفر، لأن الثمرة تدل على المثمر وإلى هذا يرجع تفاوت معرفة العارفين تفاوتا لا يتناهى، وبه تعرف أن من قال: لا أعرف إلا الله فقد صدق، ومن قال: لا أعرف الله فقد صدق، فإنه ليس في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله، فإذا نظر إلى أفعاله من حيث هي أفعاله وكان مقصور النظر عليها ولم يرها من حيث إنها سماء وأرض وشجر، بل من حيث إنها صفة له فلم تجاوز معرفته حضرة الربوبية فيمكنه أن يقول: ما أعرف إلا الله وما أرى إلا الله، ولو تصور شخص لا يرى إلا الشمس ونورها المنتشر في الآفاق يصح أن يقول: ما أرى إلا الشمس فإن النور الفائض منها هو من جملتها ليس خارجا منها، وكل ما في الوجود نور من أنوار القدرة الأزلية وأثر من آثارها، وكما أن الشمس ينبوع النور الفائض على كل مستنير، فكذلك المعنى الذي قصرت العبارة عنه فعبر عنه بالقدرة الأزلية للضرورة، هو ينبوع الوجود الفائض على كل موجود، فليس في الوجود إلا الله تعالى (بل لا ظلمة أشد من العدم ولا نور أظهر من الوجود) قال المصنف في مشكاة الأنوار مهما عرفت أن النور راجع إلى الظهور والإظهار ومراتبه فاعلم أنه لا ظلمة أشد من ظلمة العدم، لأنه يظلم ويسمى مظلما لأنه ليس للإبصار، إذ ليس بصير موجودا للبصر مع أنه موجود في نفسه، فالذي ليس موجودا لا بغيره ولا بنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة، وفي مقابلته الوجود فهو النور، فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره (ووجود الأشياء كلها نور من أنوار ذاته تعالى وتقدس، إذ قوام وجود الأشياء بذاته القيوم بنفسه كما أن قوام نور الأجسام بنور الشمس المضيئة بنفسها) قال المصنف في مشكاة الأنوار: والوجود بنفسه أيضا ينقسم إلى ما الوجود له من ذاته وإلى ما الوجود من غيره، بل إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض، وإنما هو وجوده من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقي، فالموجود الحق هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله تعالى (ومهما انكسف بعض الشمس فقد جرت العادة بأن يوضع طست ماء حتى ترى الشمس فيه، ويمكن النظر إليها فيكون الماء واسطة يغض قليلا من نور الشمس حتى يطاق النظر إليها، فكذلك الأفعال واسطة تشاهد فيها صفات الفاعل ولا يبهرنا نور الذات بعد أن تباعدنا عنها بواسطة الأفعال، فهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله) ، وقال الفخر الرازي: أشار بهذا الحديث إلى أن من أراد الوصول إلى كنه العظمة وهوى الجلال تحير وتردد بل عمي فإن نور جلال الإلهية يعمي أحداق العقول البشرية، وترك النظر بالكلية في المعرفة يوقع في الضلال، والطرفان مذمومان والطريق القويم أن يخوض الإنسان البحر المعتدل ويترك التعمق، ومن ثم سميت كلمة الشهادة كلمة العدل. انتهى .

وقال الراغب: نبه بهذا الخبر على أن غاية معرفة الإنسان ربه أن يعرف أجناس الموجودات جوارها وأعراضها المحسوسة والمعقولة، ويعرف أثر الصنعة فيها، فإنها محدثة وأن محدثها ليس إياها ولا مثلا لها بل هو الذي يصح ارتفاع كلها مع بقائه، ولا يصح بقاؤها وارتفاعه، ولما كان معرفة العالم كله تصعب على المكلف لقصور الأفهام عن بعضها واشتغال البعض بالضروريات، جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالما صغيرا أوجد فيه مثال كل ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر من كتاب بسيط يكون مع [ ص: 183 ] كل أحد نسخة يتأملها حضرا وسفرا وليلا ونهارا، فإن نشط وتفرغ للتوسع في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم، فيطلع منه على الملكوت ليغزر علمه وإلا فله مقنع بالمختصر وفي أنفسكم أفلا تبصرون انتهى .

وقال الشيخ الأكبر قدس سره: ولا تفكروا في الله لأن للعقول حدا تقف عنده من حيث هي مفكرة، وأية مناسبة بين الحق الواجب الوجود لذاته وبين الممكن، وإن كان واجباته عند من يقول به، وما أخذه الفكر به إنما يقوم صحيحه من البراهين الوجودية، ولا بد بين الدليل والمدلول والبرهان والمبرهن عليه من وجه به يكون التعلق له نسبة إلى الدليل ونسبة إلى المدلول، فلا يصح أن يجتمع الخلق والحق في وجه أبدا من حيث الذات بل من حيث أن هذه الذات منعوتة بالألوهية، فهذا حكم آخر تستقل العقول بإدراكه، وكم من عاقل يدعي العقل الرصين من العلماء النظار، يقول أنه حصل على معرفة الذات من حيث النظر الفكري وهو غالط لتردده بفكره بين السلب والإثبات، والإثبات راجع إلى الوجود، والسلب إلى العدم والنفي، والنفي لا يكون صفة ذاتية لأن الصفات الذاتية للموجودات إنما هي ثبوتية، فما حصل هذا الفكر المتردد بينهما من العلم بالله على شيء. اهـ .

وقال المصنف في الجواهر والدرر: معرفة الله تعالى هو الكبريت الأحمر، وتشتمل على معرفة ذات الخالق ومعرفة الصفات ومعرفة الأفعال، فهذه الثلاثة هي اليواقيت فإنها أخص فوائد الكبريت الأحمر، وكما أن لليواقيت درجات فمنها الأحمر ومنها الأكهب ومنها الأصفر وبعضها أنفس من بعض، فكذلك هذه المعارف الثلاثة ليست على رتبة واحدة بل أنفسها معرفة الذات وهو الياقوت الأحمر ثم يليها معرفة الصفات وهو الياقوت الأكهب ثم يليها معرفة الأفعال وهو الياقوت الأصفر، وكما أن أنفس هذه اليواقيت وأجلها وأعزها وأجودها الأحمر ولا تظفر منه الملوك إلا باليسير، وقد تظفر مما دونه بالكثير، فكذلك معرفة الذات أضيقها مجالا وأعسرها مقالا وأعصاها على الفكر وأبعدها عن قبول الذكر، ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على تلويحات وإشارات يرجع أكثرها إلى ذكر التقديس المطلق كقوله ليس كمثله شيء وكسورة الإخلاص، وإلى التعظيم والتنزيه المطلق كقوله: سبحانه وتعالى عما يصفون وأما الصفات فالمجاز فيها أفسح ونطاق المنطق فيها أوسع، ولذلك تكثر الآيات المشتملة على ذكر العلم والقدرة والحياة والكلام والسمع والبصر وغيرها، وسيأتي بقية هذا الكلام فيما بعد .




الخدمات العلمية