الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما اللسان : فلأنه منطلق بالطبع ، ولا مؤنة عليه في الحركة ، وجنايته عظيمة بالغيبة والكذب والنميمة وتزكية النفس ومذمة الخلق والأطعمة ، واللعن ، والدعاء على الأعداء ، والمماراة في الكلام ، وغير ذلك مما ذكرناه في كتاب آفات اللسان فهو بصدد ذلك كله مع أنه خلق للذكر والتذكير ، وتكرار العلم والتعليم ، وإرشاد عباد الله إلى طريق الله ، وإصلاح ذات البين ، وسائر خيراته ، فليشترط على نفسه أن لا يحرك اللسان طول النهار إلا في الذكر ، فنطق المؤمن ذكر ، ونظره عبرة ، وصمته فكرة ، و ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وأما البطن فيكلفه ترك الشره وتقليل الأكل من الحلال .

واجتناب الشبهات ، ويمنعه من الشهوات ، ويقتصر على قدر الضرورة .

ويشرط على نفسه أنها إن خالفت شيئا من ذلك عاقبها بالمنع عن شهوات البطن ؛ ليفوتها أكثر مما نالته بشهواتها .

هكذا يشرط ، عليها في جميع الأعضاء ، واستقصاء ذلك يطول ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعاتها .

، ثم يستأنف وصيتها في وظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة ، ثم النوافل التي يقدر عليها ويقدر على الاستكثار منها ، ويرتب لها تفصيلها وكيفيتها وكيفية الاستعداد لها بأسبابها .

وهذه شروط يفتقر إليها في كل يوم . ولكن إذا تعود الإنسان شرط ذلك على نفسه أياما ، وطاوعته نفسه في الوفاء بجميعها ، استغنى عن المشارطة فيها ، وإن أطاعت في بعضها بقيت الحاجة إلى تجديد المشارطة فيما بقي ، ولكن لا يخلو كل يوم عن مهم جديد ، وواقعة حادثة ، لها حكم جديد ، ولله عليه في ذلك حق ، ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا من ولاية أو تجارة أو تدريس ؛ إذ قلما يخلو يوم عن واقعة جديدة ، يحتاج إلى أن يقضي حق الله فيها ، فعليه أن يشترط على نفسه الاستقامة فيها ، والانقياد للحق في مجاريها ، ويحذرها مغبة الإهمال ويعظها كما يوعظ العبد الآبق المتمرد فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .

فهذا وما يجري مجراه هو أول مقام المرابطة مع النفس ، وهي محاسبة قبل العمل .

والمحاسبة تارة تكون بعد العمل وتارة قبله للتحذير قال الله تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه وهذا للمستقبل .

وكل نظر في كثرة ومقدار لمعرفة زيادة ونقصان فإنه يسمى محاسبة .

فالنظر فيما بين يدي العبد في نهاره ليعرف زيادته من نقصانه من المحاسبة ، وقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ذكر ذلك تحذيرا وتنبيها للاحتراز منه في المستقبل .

وروى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال لرجل سأله أن يوصيه ويعظه : إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فامضه ، وإن كان غيا فانته عنه .

وقال بعض الحكماء : إذا أردت أن يكون العقل غالبا للهوى فلا تعمل بقضاء الشهوة حتى تنظر العاقبة ؛ فإن مكث الندامة في القلب أكثر من مكث خفة الشهوة . وقال لقمان إن المؤمن إذا أبصر العاقبة أمن الندامة ، وروى شداد بن أوس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله دان نفسه : أي حاسبها ويوم الدين يوم الحساب وقوله أإنا لمدينون أي : لمحاسبون .

وقال عمر رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتهيئوا للعرض الأكبر وكتب إلى أبي موسى الأشعري حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة .

وقال لكعب كيف تجدها في كتاب الله ؟ قال : ويل لديان الأرض من ديان السماء ، فعلاه بالدرة ، وقال : إلا من حاسب نفسه ، فقال كعب يا أمير : المؤمنين إنها إلى جنبها في التوراة ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه .

وهذا كله إشارة إلى المحاسبة للمستقبل إذ قال من دان نفسه يعمل لما بعد الموت .

ومعناه : وزن الأمور أولا ، وقدرها ، ونظر فيها ، وتدبرها ، ثم أقدم عليها فباشرها .

التالي السابق


(أما اللسان: فلأنه منطلق بالطبع، ولا مؤنة عليه في الحركة، وجنايته عظيمة بالغيبة والكذب والنميمة وتزكية النفس ومذمة الخلق، و ) مذمة (الأطعمة، واللعن، والدعاء على الأعداء، والمماراة في الكلام، وغير ذلك مما ذكرناه في كتاب آفات اللسان ) مفصلا (فهو بصدد ذلك كله مع أنه خلق للذكر والتذكير، وتكرار العلم والتعليم، وإرشاد عباد الله إلى طريق الله، وإصلاح ذات البين، وسائر خيراته، فليشترط على نفسه أن لا يحرك اللسان طول النهار إلا في الذكر، فنطق المؤمن ذكر، ونظره عبرة، وصمته فكرة، و ) قال الله تعالى: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) يكتب عليه ما لفظ به .

(وأما البطن فيكلفه ترك الشره ) أي: الحرص [ ص: 93 ] (وتقليل الأكل من الحلال، واجتناب الشبهات، ويمنعه من الشهوات، ويقتصر على قدر الضرورة ) مما يقيم به صلبه في الطاعات .

(ويشترط على نفسه أنها إن خالفت شيئا من ذلك عاقبها بالمنع عن شهوات البطن؛ ليفوتها أكثر مما نالته بشهوتها، وهكذا يشترط عليها في جميع الأعضاء، واستقصاء ذلك يطول ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعتها، ثم يستأنف وصيتها في وظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة، ثم في النوافل التي يقدر عليها ويقدر على الاستكثار منها، ويرتب لها تفصيلها وكيفيتها وكيفية الاستعداد لها بأسبابها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم .

ولكن إذا تعود الإنسان شرط ذلك لنفسه أياما، وطاوعته نفسه في الوفاء بجميعها، استغنى عن المشارطة فيها، وإن أطاع في بعضها بقيت الحاجة إلى تجديد المشارطة فيما بقي، ولكن لا يخلو كل يوم عن مهم جديد، وواقعة حادثة، لها حكم جديد، ولله عليه في ذلك حق، ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا من ولاية أو تجارة أو تدريس؛ إذ قلما يخلو يوم عن واقعة جديدة، يحتاج إلى أن يقضي حق الله فيها، فعليه أن يشترط على نفسه الاستقامة فيها، والانقياد للحق في مجاريها، ويحذرها مغبة الإهمال ) أي: عاقبته (ويعظها كما يوعظ العبد الآبق المتمرد ) على سيده (فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية ) والذل والقهر (ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها ) .

قال الله تعالى: ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) بتنبههم لقبول ذلك (فهذا وما يجري مجراه هو أول مقام المرابطة مع النفس، وهي محاسبته قبل العمل ) أي: قبل الشروع فيه (والمحاسبة تارة تكون بعد العمل ) وهذا هو الأكثر (وتارة ) تكون (قبله ) وهي (للتحذير ) عن الوقوع فيما يفسد العمل (قال الله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه وهذا للمستقبل، وكل نظر في كثرة ومقدار لمعرفة زيادة ونقصان فإنه يسمى محاسبة، فالنظر فيما بين يدي العبد في نهاره ليعرف زيادته من نقصانه من المحاسبة، وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا وقال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ذكر ذلك ) كله (تحذيرا وتنبيها للاحتراز منه في المستقبل .

وروى عبادة بن الصامت ) رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله أن يوصيه ويعظه: إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فأمضه، وإن كان غيا فانته عنه ) رواه ابن المبارك في الزهد، عن أبي جعفر عبد الله بن المسور الهاشمي مرسلا، بلفظ: "فإن كان خيرا" بدل "رشدا" "وإن كان شرا" بدل "غيا" وابن المسور تكلموا فيه، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث .

(وقال بعض الحكماء: إذا أردت أن يكون العقل غالبا على الهوى فلا تعمل بقضاء الشهوة حتى تنظر العاقبة؛ فإن مكث الندامة في القلب أكثر من مكث خفة الشهوة. وقال لقمان ) رحمه الله تعالى: (إن المؤمن إذا أبصر العاقبة أمن الندامة، وروى شداد بن أوس ) رضي الله عنه (عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على [ ص: 94 ] الله ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وقد تقدم .

(دان نفسه: أي حاسبها ) وقيل: استعبدها وقهرها، يعني جعل نفسه مطيعة منقادة لأوامر ربها، أي: الكيس من أبصر العاقبة، وحاسب نفسه، والأحمق من عمي عنها، وحجبته الشهوات والغفلات .

(ويوم الدين يوم الحساب ) وقيل: يوم الجزاء (وقوله ) تعالى: ( أإنا لمدينون أي: لمحاسبون ) وقيل: لمجزيون، فالدين يطلق على معان كثيرة منها الحساب .

(وقال عمر -رضي الله عنه-: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر ) رواه أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، قال: قال عمر: زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوها قبل أن تحاسبوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (وكتب ) رضي الله عنه (إلى أبي موسى الأشعري ) رضي الله عنه وهو أمير بالبصرة (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة ) رواه إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن أبي بردة.

(وقال ) رضي الله عنه (لكعب ) الأحبار يوما: (كيف تجد ما في كتاب الله؟ قال: ويل لديان الأرض من ديان السماء، فعلاه بالدرة، وقال: إلا من حاسب نفسه، فقال كعب: يا أمير المؤمنين إنها ) أي: هذه الكلمة (إلى جنبها في التوراة ما بينهن حرف إلا من حاسب نفسه ) والديان الحاكم والقاضي والمحاسب والمجازي .

(وهذا كله إشارة إلى المحاسبة للمستقبل إذ قال ) صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: الكيس (من دان نفسه يعمل لما بعد الموت ) أي: من حاسب نفسه وقهرها اشتغل بعمل ينفعه بعد موته، (ومعناه: وزن الأمور أولا، وقدرها، ونظر فيها، وتدبرها، ثم أقدم عليها فباشرها ) .




الخدمات العلمية