الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمسامحة بالمال أهون .

التالي السابق


(والمسامحة بالمال أهون) من مسامحة المهجة، وتحقيق هذا المقام أن الله تعالى أنزل النفوس من ذواتها منزلة الأموال؛ فجعل فيها الزكاة كما جعلها في الأموال، قال: زكوا أموالكم، وقال في النفس: قد أفلح من زكاها وقد جعل فيها حكم البيع والشراء كما في هذه الآية؛ فجعل الشراء في الأموال والنفوس، كذلك جعل الزكاة في الأموال والنفوس؛ فزكاة الأموال معلومة، وقد ذكرت، وزكاة النفوس ببذلها في سبيل الله إعلاء لكلمة الله وشوقا للقاء الله بجهاد كفار الظاهر والباطن، ولما كان بذل الأنفس في سبيل الله شديدا قدم ذكرها على الأموال؛ تنبيها على علو مقامه، وأوقع الشراء عليها قبل الأموال؛ تنويها في شأنه، ولزكاة النفوس تقرير آخر مبني على أصل أصيل فيه عبرة للمعتبر، وذلك أن الزكاة حق الله في المال والنفس ما هو حق لرب المال ولا النفس، فنظرنا في النفس ما هو لها فلا تكليف عليها بزكاة وما هو لله، فتلك الزكاة فنعطيه لله من هذه النفس لنكون من المفلحين بقوله: قد أفلح من زكاها فإذا نظرنا إلى عين النفس لذاتها من كونها عينا ممكنة لذاتها لا زكاة عليها في ذلك؛ فإن الله لا حق له في الإمكان، فإنه سبحانه واجب لذاته غير ممكن بوجه من الوجوه، ووجدنا هذه النفس قد اتصفت بالوجود، فقلنا: هذا الوجود هو لها لذاتها أم لا؟ فرأينا أن وجودها ليس هو عين ذاتها ولا هو لذاتها، فنظرنا لمن هو؟ فوجدناه لله كما وجدنا القدر المعين في مال زيد المسمى زكاة ليس من مال زيد، وإنما هو أمانة عنده، كذلك الوجود للنفس في هذه العين إنما هو أمانة عنده، فقلنا لهذه النفس: هذا الوجود الذي أنت فيه ليس هو لك وإنما هو لله؛ فأخرجه لله وأضفه إلى صاحبه، وابق أنت على إمكانك لا ينقصك شيء مما هو لك، وأنت إذا فعلت ذلك كان لك من الثواب عند الله والمنزلة ما لا يقدرك قدر ذلك إلا الله تعالى، وهو الفلاح الذي هو البقاء، فيبقي الله هذا الوجود لك لا يأخذه منك أبدا؛ فهذا معنى قوله: قد أفلح من زكاها ، وهو بقاء خاص ببقاء الله تعالى، ومن هنا وجبت الزكاة في النفوس كما وجبت في الأموال ووقع فيها البيع والشراء كما وقع في الأموال .

(فإن قلت) : هذا الذي ذكرته في زكاة النفس يعارضه قوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى .

فالجواب أنه ليس معنى هذه الآية كما يقولون، إنما المراد به أن الله تعالى لا يقبل زكاة من أضاف نفسه إليه؛ أي: إذا رأيتم أن أنفسكم لكم لا لي، والزكاة إنما هي حقي وأنتم أمناء عليه، فإذا ادعيتم فيها فتزعمون أنكم أعطيتموني ما هو لكم وأني سألتكم ما ليس لي، والأمر على خلاف ذلك، فمن كان بهذه المثابة من العطاء فلا يزكي نفسه وينكشف الغطاء في الدار الآخرة، فتعلمون في ذلك الوقت هل كانت نفوسكم التي أوجبت الزكاة فيها لي [ ص: 103 ] أو لكم؟ حيث لا تنفعكم معرفتكم بذلك، فلا معارضة بين الآيتين؛ فالزكاة في النفوس آكد منها في الأموال؛ ولهذا قدمها الله في الشراء، فقال: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ثم قال: وأموالهم فالعبد ينفق في سبيل الله نفسه وماله.



الخدمات العلمية