الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني الطيب ، فليجتنب كل ما يعده العقلاء طيبا فإن تطيب ، أو لبس فعليه دم شاة .

التالي السابق


(الثاني) من المحظورات (الطيب ، فليجتنب كل ما يعده العقلاء طيبا فإن تطيب ، أو لبس) شيئا مسه طيب (فعليه دم شاة) الكلام على هذا الفصل مما تتعلق به الفدية في ثلاثة أمور الطيب ، والاستعمال ، والقصد أما الطيب ، فالمعتبر فيه أن يكون معظم الغرض التطيب ، واتخاذ الطيب فيه ، أو يظهر منه الغرض كالمسك ، والعود ، والعنبر ، والكافور ، والصندل ، ثم ما له رائحة طيبة من نبات الأرض أنواع منها ما يطلب للطيب ، واتخاذ الطيب منه كالورد ، والياسمين ، والخيزي ، وكذا الزعفران وإن كان يطلب للصبغ ، والتداوي أيضا كالورس ، وهو كما يقال أشهر طيب بلاد اليمن ، ومنها ما يطالب للأكل ، والتداوي به غالبا فلا تتعلق به الفدية كالقرنفل ، والدارصيني ، والسنبل ، وسائر الأبازير الطيبة ، وكذا السفرجل ، والتفاح ، والبطيخ ، والأترج ، والنارنج ، ومنها ما يتطيب به ، ولا يتخذ منه الطيب كالنرجس ، والريحان الفارسي والمرزنجوش ، ونحوها ففيه قولان القديم أنه تتعلق به الفدية ؛ لأن هذه الأشياء لا تبقى لها رائحة إذا جفت ، وقد روي أن عثمان - رضي الله عنه - سئل عن المحرم هل يدخل البستان قال نعم ويشم الريحان رويناه في مسلسلات ابن ناصر الدين الدمشقي من طريق الطبراني ، وهو في المعجم الصغير بسنده إلى جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، عن أبان بن عثمان ، عن عثمان ، وأورده المنذري في تخريج أحاديث المهذب مسندا أيضا ، وقال النووي في شرح المهذب : إنه غريب يعني أنه لم يقف على إسناده ، والجديد التعلق لظهور قصد التطيب فما كالورد ، والزعفران ، وأما البنفسج فأصح الطرق فيه أنه طيب كالورد ، والياسمين ، وأما ما نقلوا عن نصه أنه ليس بطيب ، فإنهم حملوه على الجاف منه ، أو على بنفسج الشام ، والعراق ، والمري بالكسر المستهلك فيه ، وفي اللينوفر قولا النرجس ، والريحان ، ومنهم من قطع بأنه طيب ، ومنها ما ينبت بنفسه ، ولا يستنبت كالشيح ، والقيصوم ، والشقائق ، فلا تتعلق بالفدية [ ص: 316 ] أيضا ، وكذا العصفر ، وبه قال أحمد ، وقال أبو حنيفة : تتعلق به الفدية ، والحناء ليس بطيب ، وقال أبو حنيفة : هو طيب ، وفي دهن الورد وجهان ؛ أصحهما : أنه تتعلق به الفدية ، وفي دهن البنفسج وجهان : أظهرهما أنه ليس بطيب ، وأما اللبان ودهنه ، فنقل الإمام عن النص أنهما ليسا بطيب ، وأطلق الأكثرون القول بأن كلا منهما طيب ، وفي كون دهن الأترج طيبا وجهان : حكاهما الماوردي ، والروياني ، وقطع الروياني بأنه طيب .

الأمر الثاني : الاستعمال ، وهو إلصاق الطيب بالبدن على الوجه المعتاد من ذلك الطيب ، فلو طيب جزءا من بدنه بغالية ، أو مسك مسحوق ، أو ماء ورد لزمته الفدية ، وعن أبي حنيفة أن الفدية التامة إنما تلزم إذا طيب عضوا ، أو ربع عضو ، فإن طيب أقل منه لم تلزمه ، ولا فرق بين أن يتفق الإلصاق بظاهر البدن ، أو داخله كما لو أكله ، أو احتقن به ، أو تسعط به ، وقيل : لا فدية في الحقنة ، والسعوط ، ولو جلس في حانوت عطار أو عند الكعبة وهي تجمر ، أو في بيت تجمر ساكنوه فعبق به الريح دون العين ، فلا فدية ؛ لأن ذلك لا يسمى متطيبا ، ثم إن قصد الموضع لا لاشتمام الرائحة لم يكره ، وإلا كره على الأصح .

وعن القاضي الحسين أن الكراهة ثابتة لا محالة ، والخلاف في وجوب الفدية ، ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه وثيابه لزمته الفدية ؛ لأن هذا هو طريق التطيب ، وعن أبي حنيفة أنه لا فدية عليه ، ولو مس طيبا ، ولم يعلق ببدنه شيء من عينه ، ولكن عبقت به الرائحة ، فهل تلزمه الفدية فيه قولان ؛ أحدهما : لا ، وهو منقول المزني ، والثاني : نعم ، وهو المروي عن الإملاء .

وذكر صاحب العدة أن هذا أصح القولين ، وكلام الأكثرين يميل إلى الأول ، ولو شد المسك ، أو العنبر ، أو الكافور في طرف ثوبه ، أو جيبه ، وجبت الفدية ، وفي العود لا ، وإن حمل مسكا في فارة غير مشقوقة ، فوجهان : أصحهما ، وبه قال القفال أنه تجب ، وأصحهما ، وبه قال الشيخ أبو حامد لا ، ولو جلس على فراش مطيب ، ونام عليه مفضيا ببدنه ، أو ملبوسه إليها لزمته الفدية ، فلو فرش فوقه ثوبا ، ثم جلس عليه ، أو نام لم تجب ، ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية ؛ لأنها ملبوسة له .

الأمر الثالث : كون الاستعمال عن قصد ، فلو تطيب ناسيا لإحرامه ، أو جاهلا بتحريم الطيب لم تلزمه الفدية ، وعند مالك ، وأبي حنيفة ، والمزني تجب الفدية على الناسي ، والجاهل ، وعن أحمد روايتان ، وإن علم بتحريم الاستعمال ، وجهل وجوب الفدية لزمته الفدية ، ولو علم تحريم الطيب ، وجهل كون الممسوس طيبا فجواب الأكثرين أنه لا فدية ، وحكى الإمام وجها آخر أنها تجب ، ولو مس رطبا وهو يظن أنه يابس لا يعلق به شيء منه ، ففي وجوب الفدية قولان ؛ أحدهما : أنها تجب ، والثاني : لا ، وبالقول الأول أجاب صاحب الكتاب ، ورجحه الإمام ، وقطع به في الشامل ، ولكن طائفة من الأصحاب رجحوا الثاني . وذكر صاحب التقريب أنه القول الجديد ، ومتى لصق الطيب ببدنه ، أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية ، وإن كان ناسيا ، أو ألقته الريح عليه فعليه أن يبادر إلى غسله ، أو معالجته بما يقطع رائحته ، والأولى أن يأمر غيره به ، وإن باشره بنفسه لم يضره ؛ لأن قصده الإزالة ، فإن توانى فيه ، ولم يزله مع الإمكان فعليه الفدية ، فإن كان زمنا لا يقدر على الإزالة ، فلا فدية عليه كما لو أكره على الطيب قاله في التهذيب .



(فصل)

وأما اعتبار الطيب للمحرم ، فاعلم أن رائحة الطيب يستلذ بها صاحب الطبع السليم ، ولا تستخبثها نفسه ، وهو الثناء على العبد بالنعوت الإلهية الذي هو التخلق بالأسماء الحسنى لا بمطلق الأسماء ، وهو في هذه العبادة الأغلب عليه مقام العبودية لما فيها من التحجر ، ومن الأفعال التي يجهل حكمتها النظر العقلي ، فكأنها مجرد عبادة ، فلا تقوم إلا بأوصاف العبودية ، فالمحرم في حالة إحرامه تحت قهر اسم العبودية ، فليس له أن يحدث طيبا ، أي : ثناء إلهيا فيزيل عنه حكم ما يعطيه الاسم الحاكم لتلك العبادة ؛ فإنها لا تتصور عبادة إلا بحكم هذا الاسم ، فإذا زال لم يكن ثم من يقيمها إلا النائب الذي هو للفدية لا غير ، والله أعلم .




الخدمات العلمية