الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إذا فرغ من الطواف عاد إلى منى للمبيت والرمي ، فيبيت تلك الليلة بمنى وتسمى ليلة القر لأن الناس في غد يقرون بمنى ولا ينفرون .

فإذا أصبح اليوم الثاني من العيد وزالت الشمس اغتسل للرمي وقصد الجمرة الأولى التي تلي عرفة وهي على يمين الجادة ويرمي إليها بسبع حصيات فإذا تعداها انحرف قليلا عن يمين الجادة ، ووقف مستقبل القبلة وحمد الله تعالى وهلل وكبر ودعا مع حضور القلب ، وخشوع الجوارح ، ووقف مستقبل القبلة قدر قراءة سورة البقرة مقبلا على الدعاء ، ثم يتقدم إلى الجمرة الوسطى ويرمي كما رمى الأولى ويقف كما وقف للأولى ، ثم يتقدم إلى جمرة العقبة ويرمي سبعا ولا يعرج على شغل بل ، يرجع إلى منزله ويبيت تلك الليلة بمنى ، وتسمى هذه الليلة ليلة النفر الأول ويصبح فإذا صلى الظهر في اليوم الثاني من أيام التشريق رمى في هذا اليوم إحدى وعشرين حصاة كاليوم الذي قبله .

ثم هو مخير بين المقام بمنى ، وبين العود إلى مكة .

فإن خرج من منى قبل غروب الشمس فلا شيء عليه وإن صبر إلى الليل فلا يجوز له الخروج ، بل لزمه المبيت حتى يرمي في يوم النفر الثاني أحدا وعشرين حجرا كما سبق .

التالي السابق


(ثم إذا فرغ من الطواف عاد إلى منى للمبيت والرمي، فيبيت تلك الليلة بمنى وتسمى) ، هذه الليلة (ليلة القر) بالفتح; (لأن الناس في غدها يقرون بمنى ) للنحر، (ولا ينفرون) ، ولذلك يقال ليومها أيضا يوم القر، وقد قر بالمكان قر واستقر بمعنى واحد، (فإذا أصبح اليوم الثاني من العيد) وهو أول يوم من أيام التشريق (وزالت الشمس اغتسل للرمي ) وهو سنة .

وقد تقدم عند ذكر الاغتسال المسنونة (وقصد الجمرة الأولى التي تلي عرفة ) على يمين المقبل منها إلى منى (وهي على متن الجادة) التي يسلكها الناس، (ويرمي إليها بسبع حصيات فإذا تعداها) ، أي: تجاوزها (انحرف) ، أي: مال (قليلا عن متن الجادة، ووقف مستقبل القبلة فحمد الله تعالى وهلله وكبره [ ص: 403 ] ودعا مع حضور القلب، وخشوع الجوارح، ووقف مستقبل القبلة قدر قراءة سورة البقرة مقبلا على الدعاء، ثم يتقدم إلى الجمرة الوسطى ويرميها) بسبع حصيات، (كما رمى) الجمرة (الأولى ويقف) عندها، (كما وقف في الأولى، ثم يتقدم إلى جمرة العقبة ويرميها بسبع) حصيات (ولا يعرج على شغل ولا يقف لدعاء، بل يرجع إلى منزله) .

رواه البخاري من حديث ابن عمر أنه كان يرمي في الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.

ورواه النسائي والحاكم، ووهم في استدراكه (ويبيت تلك الليلة بمنى أيضا، وتسمى هذه الليلة ليلة النفر الأول) ، ويومها يوم النفر الأول، والنفر بالتحريك (ويصبح فإذا صلى الظهر في اليوم الثاني من أيام التشريق رمى في هذا اليوم إحدى وعشرين حصاة كاليوم الذي قبله) ، لكل جمرة سبعة سبعة هكذا تواتر النقل فيه قولا وعملا (ثم هو مخير بين المقام بمنى، وبين العود إلى مكة فإن خرج من منى قبل) غروب (الشمس فلا شيء عليه) ، أي له ذلك، ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة والرمي من الغد ولا دم عليه، والأصل فيه قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ، (وإن صبر إلى الليل لم يجز له الخروج، بل يلزمه المبيت حتى يرمي في يوم النفر الثاني إحدى وعشرين حصاة كما سبق) ، وبه قال مالك وأحمد.

وقال أبو حنيفة: يشرع النفر ما لم يطلع الفجر، قال الرافعي: وإذا ارتحل فغربت الشمس قبل أن ينفصل عن منى كان له أن ينفر كيلا يحتاج إلى الحط بعد الترحال، ولو غربت الشمس وهو في شغل الارتحال فهل له أن ينفر؟ فيه وجهان أصحهما: نعم. ومن نفر وكان قد تزود الحصى للأيام الثلاثة طرح ما بقي عنده، أو دفعها لغيره، قال الأئمة: ولم يؤثر شيء فيما يعتاده الناس من دفنها اهـ .

وقد عرف من سياق المصنف أن وقت الرمي في أيام التشريق يدخل بالزوال، ويبقى إلى غروب الشمس، وبهذا قال مالك وأحمد، وعن أبي حنيفة يجوز الرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وهل يمتد وقتها إلى طلوع الفجر ؟ أم في اليوم الثالث فلا، وأما في اليومين الأولين فوجهان، أصحهما أنه لا يمتد .

وروى أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه من النحر حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة سبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية، ويتضرع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها.

وقال الرافعي: والسنة أن يرفع اليد عند الرمي فهو أعون عليه وأن يرمي في أيام التشريق مستقبل القبلة، وفي يوم النحر مستدبرها، كذلك ورد في الخبر، وأن يكون نازلا في رمي اليومين الأولين ورا كباقي اليوم الأخير يرمي ويسير عقيبه كما أنه يوم النحر يرمي ثم ينزل، هكذا أورده الجمهور ونقلوه عن نصه في الإملاء وفي التتمة أن الصحيح ترك الركوب في الأيام الثلاثة .

قال النووي في زيادات الروضة: هذا الذي قاله في التتمة ليس بشيء، والصواب ما تقدم، وأما جزم الرافعي بأنه يستدبر القبلة يوم النحر فهو وجه قاله الشيخ أبو حامد وغيره، وله وجه أنه يستقبلها، والصحيح أنه يجعل القبلة على يساره وعرفات على يمينه، ويستقبل الجمرة فقد ثبت فيه أنه الصحيح والله أعلم، ثم قال الرافعي: والسنة إذا رمى في الجمرة الأولى أن يتقدم قليلا قدرا تبلغه حصاة الرامين، ويقف مستقبل القبلة، ويدعو ويذكر الله قليلا بقدر قراءة سورة البقرة، وإذا رمى إلى الثانية فعل مثل ذلك، ولا يقف إذا رمى إلى الثالثة اهـ. قال الحافظ: رواه البخاري من حديث ابن عمر.



(فصل في مسائل الرمي وتفاريعها) .

إحداها: إذا ترك رمي يوم القر عمدا، أو سهوا هل يتداركه في اليوم الثاني والثالث، أو ترك رمي اليوم الثاني، أو رمي اليومين الأولين، هل يتداركه في اليوم الثالث ؟ فيه قولان:

التفريع إن قلنا أداء فجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد، وكل يوم للقدر المأمور به فيه وقت اختيار كأوقات الاختيار للصلوات، ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال، وإن قلنا: إنه قضاء فتوزيع الأقدار [ ص: 404 ] المعينة على الأيام مستحق، ولا سبيل إلى تقديم رمي يوم على يوم، ولا إلى تقديمه على الزوال، وهل يجوز بالليل ؟ فيه وجهان أصحهما. نعم; لأن القضاء لا يتأقت، وهل يجب الترتيب بين الرمي المتروك ورمي يوم التدارك ؟

فيه قولان أصحهما: نعم .

التفريع إن لم نوجب الترتيب، فهل يجب على أصحاب الأعذار كالرعاة ؟ فيه وجهان قاله في التتمة، ولو رمى إلى الجمرات كلها عن اليوم قبل أن يرمي إليها عن أمسه أجزأه إن لم نوجب الترتيب، فإن أوجبناه فوجهان أصحهما: أنه يجزئه، ويقع عن القضاء، ولو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة حصاة سبعا عن أمسه وسبعا عن يومه، جاز إن لم نعتبر الترتيب، وإن اعتبرناه لا يجوز، وهو نصه في المختصر، هذا كله في رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق .

أما إذا ترك رمي يوم النحر، ففي تداركه في أيام التشريق طريقان أصحهما أنه على قولين الثانية يشترط في رمي أيام التشريق الترتيب في المكان، وهو أن يرمي أولا إلى الجمرة التي تلي مسجد الخيف، وهي أقرب الجمرات من منى، وأبعدها من مكة إلى الجمرة الوسطى، ثم إلى الجمرة القصوى وهي جمرة العقبة فلا يعتد برمي الثانية قبل تمام الأولى ولا بالثالثة قبل تمام الأولين، وعند أبي حنيفة لو عكسها أعاد فإن لم يفعل أجزأه، فلو ترك حصاة ولم يدر من أين تركها، أخذ بأنه تركها من الجمرة الأولى، ورمى إليها واحدة، ويعيد رمي الأخيرتين، وفي اشتراط الموالاة بين رمي الجمرة الواحدة خلاف، الثالثة: إذا ترك رمي بعض الأيام .

وقلنا: إنه يتدارك في بقية الأيام فيتدارك، ولا دم عليه، وقد حصل الانحياز، ولو نفر يوم النحر، أو يوم النفر قبل أن يرمي، ثم عاد ورمى قبل الغروب وقع الموقع ولا دم عليه، ولو فرض ذلك في النفر الأول فكمثل ذلك في أصح الوجهين، ولو لم يتدارك ما تركه، أو قلنا: لا يمكن التدارك لزم الدم لا محالة، يختلف ذلك بحسب قدر المتروك وفيه صور إحداها إذا ترك رمي أيام التشريق والتصوير فيما إذا توجه عليه، رمى اليوم الثالث أيضا ففيه قولان: أحدهما يلزمه ثلاثة دماء لكن رمي كل يوم عبادة برأسها، والثاني لا يجب أكثر من دم كما لا يجب لترك الجمرات الثلاثة أكثر من دم، ولو ترك معها رمي يوم النحر أيضا إن قلنا بالأول فعليه أربعة دماء .

وإن قلنا بالثاني فوجهان: أصحهما أنه يلزمه دمان أحدهما ليوم النحر، والثاني لأيام التشريق لاختلاف الزمنين في الحكم، والله أعلم .



(فصل) .

واضطرب كلام أئمتنا في حكم الترتيب بين الجمرات، وقد صرح أكثرهم بأنه سنة، وممن صرح به صاحب البدائع والكرماني، وصاحب الفتاوى الظهيرية، وصاحب المحيط، قال صاحب البدائع: فلو ترك الترتيب في اليوم الثاني فبدأ بجمرة العقبة فرماها، ثم بالوسطى، ثم بالتي تلي المسجد، ثم ذكر ذلك في يومه فإنه ينبغي أن يعيد الوسطى، وجمرة العقبة لتركه الترتيب وأنه سنة، وإذا ترك المسنون تستحب الإعادة، ولا يعيد الأولى; لأنه إذا أعاد الوسطى وجمرة العقبة صارت هي الأولى وإن لم يعد الوسطى والعقبة أجزأه .

وقال الكرماني: ثم الترتيب في رمي الجمرات مستحب عندنا، حتى ولو عكس الرمي يستحب أن يعيد ليكون على الوجه المسنون فإن لم يفعل أجزأه ولا دم عليه، وقال صاحب الظهيرية: فإن غير هذا الترتيب أعاد الوسطى والعقبة، يأتي بهما مرتبا مسنونا، وقال صاحب المحيط: فإن رمى كل جمرة بثلاث أتم الأولى بأربع، ثم أعاد الوسطى بسبع، ثم العقبة بسبع; لأنه رمى عن الأولى أقلها والأقل لا يقوم مقام الكل فلا عبرة به فكأنه أتى بهما قبل الأولى ابتداء فيعيدهما، فإن رمى كل واحدة بأربع أتم كل واحدة بثلاث; لأنه أتى بالأكثر من الأولى، وللأكثر حكم الكل فكأنه رمى الثانية والثالثة بعد الأولى، وإن استقبل رميها كان أفضل ليكون إتيانه على الوجه المسنون، وقال في الينابيع: فإن ترك الترتيب في رمي الجمار أجزأه وأساء، وقال زفر: لا يجزئه دل هذا على أن الترتيب شرط عند زفر دون الأئمة الثلاثة، والله أعلم .




الخدمات العلمية