الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا رؤي الهلال ببلدة ولم ير بأخرى وكان بينهما أقل من مرحلتين وجب الصوم على الكل وإن كان أكثر ، كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب .

التالي السابق


ثم قال المصنف رحمه الله : (وإذا رئي الهلال) أي هلال رمضان (ببلدة ولم ير بأخرى) فإن تقاربتا (وكان بينهما أقل من مرحلتين) فحكمهما حكم البلدة الواحدة ، وحينئذ (وجب الصوم على الكل) أي على كل من أهل البلدتين (وإن) تباعدتا بأن (كانت المسافة بينهما أكثر من ذلك ، كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب) وفي ضبط البعد ثلاثة أوجه ، قيل : مقدر بمسافة القصر ، وبهذا قطع إمام الحرمين ، وتبعه المصنف ، وهذه عبارته في الوجيز ، وإذا رأى الهلال في الموضع لم يلزمه الصوم في موضع آخر بينهما مسافة القصر إذا لم ير فيه .. أ هـ . .

وكذا قطع به صاحب التهذيب ، وادعى الإمام الاتفاق عليه ، واختار الرافعي في المحرر وصححه النووي في شرح مسلم وقال : لأن الشرع علق بها كثيرا من الأحكام ، والثاني : اعتباره باتحاد الإقليم واختلافه ، والثالث : أن التباعد أن تختلف المطالع ؛ كالحجاز والعراق وخراسان ، والتقارب أن لا يختلف ؛ كبغداد والكوفة والري وقزوين ، وهذا القول قطع به العراقيون والصيدلاني ، وصححه النووي في المنهاج والروضة ، قال شارح المنهاج : لأن الهلال لا تعلق له بمسافة القصر ، ولما روى مسلم عن كريب مولى ابن عباس ، أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال يوم الجمعة ، ثم قدمت المدينة آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس . . . ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة . فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه . فقلت : أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقياسا على طلوع الفجر والشمس وغروبها قال الشيخ تاج الدين التبريزي : واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخا ، فإن قيل اعتبار اتحاد المطالع واختلافها يتعلق بالمنجم والحاسب وقد تقدم [ ص: 200 ] أنه لا يعتبر قولهما في إثبات رمضان ، أجيب بأنه لا يلزم من عدم اعتباره في الأصول والأمور العامة عدم اعتباره في التوابع والأمور الخاصة ، فإن شك في الاتفاق في المطلع لم يجب على الذين لم يروا صوما ؛ لأن الأصل عدم وجوبه ؛ لأنه إنما يجب بالرؤية ، ولم تثبت في حق هؤلاء لعدم ثبوت قربهم من بلد الرؤية ، قاله السبكي ، وقد تختلف المطالع وتكون الرؤية في أحد البلدين مستلزمة للرؤية في الآخر من غير عكس ، وذلك أن الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في البلاد الغربية . فمتى اتحد المطلع لزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر ، ومتى اختلف لزم من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي ، ولا ينعكس ، وعلى ذلك حديث كريب ، فإن الشام غربية بالنسبة إلى المدينة ، فلا يلزم من رؤيته في الشام رؤيته في المدينة .



(فصل)

وقال أصحابنا : لا عبرة باختلاف المطالع ، فإذا ثبت في مصر لزم سائر الناس ، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب في ظاهر المذهب ، وقيل : يعتبر ؛ لأن السبب الشهر وانعقاده في حق قوم للرؤية لا يستلزم انعقاده في حق آخرين مع اختلاف المطالع ، وصار كما لو زالت أو غربت الشمس على قوم دون آخرين وجب على الأولين الظهر والمغرب دون أولئك ، وجه الأول عموم الخطاب في قوله : صوموا . معلقا بمطلق الرؤية في قوله : لرؤيته . وبرؤية قوم يصدق اسم الرؤية ، فيثبت ما يتعلق به من عموم الحكم ، فيعم الوجوب ، بخلاف الزوال وأخيه ، فإنه لم يثبت تعلق عموم الوجوب بمطلق مسماه في خطاب من الشارع ، والله أعلم .

ثم إنما يلزم متأخري الرؤية إذا ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب ، حتى لو شهد جماعة أن أهل بلد كذا رأوا هلال رمضان قبلكم بيوم فصاموا ، وهذا اليوم ثلاثون بحسابهم ، ولم ير هؤلاء الهلال ، لا يباح فطر غد ، ولا تترك التراويح هذه الليلة ؛ لأن هذه الجماعة لم يشهدوا بالرؤية ، ولا على شهادة غيرهم ، وإنما حكوا رؤية غيرهم ، ولو شهدوا أن قاضي بلد كذا شهد عنده اثنان برؤية الهلال في ليلة كذا وقضى بشهادتهما جاز لهذا القاضي أن يحكم بشهادتهما ؛ لأن قضاء القاضي حجة ، وقد شهدوا به ، ومختار صاحب التجريد وغيره من المشايخ اعتبار اختلاف المطالع .

قال الزيلعي : وهو الأشبه . وقال ابن الهمام : والأخذ بظاهر الرواية أحوط ، وحديث كريب اختلف فيه أحد رواته وهو يحيى بن يحيى في قوله : أولا نكتفي ؟ بالنون أو التاء ، ولا شك أن هذا أولى ؛ لأنه نص ، وذلك محتمل ؛ لكون المراد أمر كل أهل مطلع بالصوم لرؤيتهم ، وقد يقال : إن الإشارة في قوله هكذا إلى نحو ما جرى بينه وبين رسول أم الفضل ، وحينئذ لا دليل فيه ؛ لأن مثل ما وقع من كلامه لو وقع لنا لم نحكم به ؛ لأنه لم يشهد على شهادة غيره ولا على حكم الحاكم ، فإن قيل : إخباره عن صوم معاوية يتضمنه ؛ لأنه الإمام ، يجاب بأنه لم يأت بلفظ الشهادة ، ولو سلم فهو واحد لا يثبت بشهادته وجوب القضاء على القاضي . والله أعلم .



(فصل)

قال في الروضة : ولو شرع في الصوم في بلد ثم سافر إلى بلد بعيد ولم ير الهلال في يومه الأول واستكمل ثلاثين ، فإن قلنا : لكل بلد حكم نفسه لزمه أن يصوم معهم على الأصح ؛ لأنه صار من جملتهم . وإن قلنا : يعم الحكم جميع البلاد لزم أهل البلد المنتقل إليه موافقته إن ثبت عندهم حال البلد الأول بقوله أو بطريق آخر ، وعليهم قضاء اليوم الأول ، ولو سافر من البلد الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد رئي فيه فعيدوا اليوم التاسع والعشرين من صومه ، فإن عممنا الحكم وقلنا : له حكم المنتقل إليهم عيد معهم وقضى يوما ، وإن لم يعمهم الحكم وقلنا : له حكم المنتقل منه فصادف أهلها صائمين قال الشيخ أبو محمد : يلزمه إمساك بقية النهار إذا قلنا لكل بلدة حكمها ، واستبعد الإمام والمصنف إيجابه .



(فصل)

وفي الروضة أيضا إذا رئي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة ، سواء كان قبل الزوال أو بعدها ، وقال أصحابنا : لو رئي عند الزوال من يوم الثلاثين ففيه اختلاف ، فعند أبي يوسف هو من الليلة الماضية ، فيجب صوم ذلك اليوم وفطره إن كان ذلك في آخر رمضان ، وعند أبي حنيفة ومحمد هو للمستقبلة ، هكذا حكي الخلاف في الإيضاح ، وحكاه في المنظومة بين أبي يوسف ومحمد ، وفي التحفة قال أبو يوسف : فإذا [ ص: 201 ] كان قبل الزوال أو بعده إلى العصر فهو لليلة الماضية ، وإن كان بعد العصر فهو للمستقبلة بلا خلاف ، وروي عن ابن مسعود وأنس كقولهما ، وعن عمر في رواية أخرى وهو قول علي وعائشة مثل قول أبي يوسف ، ويروى عن أبي حنيفة أنه إن كان مجراه أمام الشمس والشمس تتلوه فهو للماضية ، وإن كان خلفها فهو للمستقبلة ، وقال الحسن بن زياد : وإن غاب بعض الشفق فللماضية ، وإن قبله فللآتية ، والمختار قولهما ، وهو كونه للمستقبلة قبل الزوال وبعده ، إلا أن واحدا لو رآه في نهار الثلاثين من رمضان فظن انقضاء مدة الصوم وأفطر عمدا ينبغي أن لا يجب عليه كفارة ، وإن رآه بعد الزوال ، والله أعلم .




الخدمات العلمية