الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا تصرف زكاة إلى كافر ولا إلى عبد ولا إلى هاشمي ولا إلى مطلبي .

التالي السابق


(ولا تصرف زكاة إلى كافر) وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: خذ من أغنيائهم ورد إلى فقرائهم، والمأخوذ من أغنياء المسلمين، فكذا المدفوع إلى فقرائهم، وخالفهم زفر من أصحابنا، فقال: يجوز دفع الصدقة إلى الذمي؛ لقوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم الآية، ولقوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء إلى غير ذلك من النصوص من غير قيد بالإسلام، والتقييد زيادة، وهو نسخ على ما عرف في موضعه؛ ولهذا جاز صرف الصدقات كلها إليهم، بخلاف الحربي المستأمن؛ حيث لا يجوز دفع الصدقة إليه بدليل الآية المتقدمة، ودليل الجماعة حديث معاذ السابق، فإن قيل: حديث معاذ خبر الواحد فلا تجوز الزيادة به؛ لأنه نسخ؛ قلنا: النص مخصوص بقوله تعالى: إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين الآية. وأجمعوا على أن فقراء أهل الحرب خرجوا من عموم الفقراء، فجاز تخصيصه بعد ذلك بخبر الواحد والقياس مع أن أبا زيد الدبوسي ذكر أن حديث معاذ مشهور ومقبول بالإجماع، فجاز التخصيص بمثله، وأما دفع غير الزكاة من الصدقات كصدقة الفطر والكفارات إلى الكافر، فقال الشافعي: لا يجوز أيضا، ووافقه أبو يوسف، ودليلهما حديث معاذ؛ ولهذا لا يجوز صرف الزكاة إليه، فصار كالحربي، وقال أبو حنيفة ومحمد: يجوز. ودليلهما عموم قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين الآية. ولولا حديث معاذ لقالا بجواز صرف الزكاة إلى الذمي، والحربي خارج بالنص .

وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مرسلا مرفوعا: لا تصدقوا إلا على أهل دينكم. فأنزل الله تعالى: ليس عليك هداهم إلى قوله: وما تنفقوا من خير يوف إليكم [ ص: 135 ] فقال صلى الله عليه وسلم: تصدقوا على أهل الأديان. وهو بإطلاقه يتناول الزكاة، لكن خرجت منه لحديث معاذ (ولا إلى عبد) ولو مدبرا أو معلقا عتقه بصفة، أو أم ولد لعموم الخروج عن ملكه، أو مكاتبا ولو عبدا للغير على الإطلاق، وبه قال مالك وأحمد، وقال أصاحبنا: لا يجوز دفع الزكاة إلى عبد نفسه ومكاتبه ومدبره وأم ولد ولا إلى عبد لغني؛ لأن الملك واقع للمولى إذا لم يكن عليه دين يحيط برقبته وكسبه، وإن كان عليه دين يحيط بهما جاز عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه؛ بناء على أن المولى يملك إكسابه عندهما، وعنده لا يملك فصار كالمكاتب، وفي الذخيرة: إذا كان العبد زمنا وليس في العيال مولاه ولا يجد شيئا يجوز، وكذا إذا كان مولاه غائبا، روي ذلك عن أبي يوسف، ولا يجوز دفعها إلى معتق البعض عند أبي حنيفة؛ لأنه كالمكاتب عنده، وعندهما إذا أعتق بعضه عتق كله، وصورته أن يعتق مالك الكل جزءا شائعا منه أو يعتقه شريكه فيستسعيه الساكت فيكون مكاتبا له ما إذا اختار التضمين أو كان أجنبيا عن العبد، جاز له أن يدفع الزكاة إليه؛ لأنه كمكاتب الغير، (ولا إلى هاشمي ولا مطلبي) أي: أولاد هاشم والمطلب، قال النووي في الروضة: فلو استعمل هاشمي أو مطلبي لم يحل له سهم العامل على الأصح، ولو انقطع خمس الخمس من بني هاشم وبني المطلب لخلو بيت المال من الفيء والغنيمة أو لاستيلاء الظلمة عليها لم يعطوا الزكاة على الأصح الذي عليه الأكثرون، وجوزه الإصطخري واختاره القاضي أبو سعد الهروي ومحمد بن يحيى اهـ .

وقال ابن هبيرة في الإفصاح: اتفقوا على أن الصدقة المفروضة حرام على بني هاشم وهم خمس بطون: آل عباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وولد الحارث بن المطلب. واختلفوا في بني المطلب هل يحرم عليهم، فقال أبو حنيفة: لا يحرم عليهم، وقال مالك والشافعي: يحرم عليهم، وعن أحمد روايتان أظهرهما: أنه حرام عليهم. اهـ .

قال أصحابنا: ودليل حرمة الصدقة على بني هاشم ما رواه مسلم أن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وأنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.

وروى البخاري: نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة. ويجمعهم ثلاث عينات وجيم وحاء، ومواليهم كساداتهم، وفائدة تخصيصهم بالذكر جواز الدفع إلى بعض بني هاشم وهم بنو أبي لهب؛ لأن حرمة الصدقة كرامة لهم استحقوها بنص النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام، ثم سار ذلك إلى أولادهم، وأبو لهب آذى النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في إذايته فاستحق الإهانة .

قال أبو نصر البغدادي: وما عدا المذكورين لا تحرم عليهم الزكاة، وقال في الهداية: ولا يدفع إلى بني هاشم، قال الشارح: هذا ظاهر الرواية .

وروى أبو عصمة عن أبي حنيفة أنه يجوز في هذا الزمان، وإنما كان ممتنعا في ذلك الزمان، وعنه وعن أبي يوسف أنه يجوز أن يدفع بعض بني هاشم إلى بعض زكاتهم، وظاهر ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: يا بني هاشم، إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس وأوساخهم، وعوضكم منها بخمس الخمس. لا ينفيه للقطع بأن المراد بالناس غيرهم؛ لأنهم المخاطبون بالخطاب المذكور عن آخرهم، والتعويض بخمس الخمس عن صدقات الناس لا يستلزم كونه عوضا عن صدقات أنفسهم، لكن هذا اللفظ غريب، والمعروف ما عند مسلم: أن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس.

ونقل الطحاوي في تبيين المشكل عن أبي يوسف ومحمد تحريم الصدقة مطلقا على بني هاشم، سواء كانت مفروضة أو غيرها. قال: واختلف عن أبي حنيفة في ذلك، فروي عنه أنه قال: لا بأس بالصدقات كلها على بني هاشم، وذهب في ذلك إلى أن الصدقات إنما كانت حرمت عليهم لأجل ما جعل لهم في الخمس من سهم ذوي القربى، فلما انقطع ذلك عنهم ورجع إلى غيرهم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حل لهم ما قد كان محرما عليهم من أجل ما قد كان أحل لهم .

وقد حدثني سليمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف، فبهذا نأخذ، ولا يكره للهاشمي أن يكون عاملا على الصدقة، وكان أبو يوسف يكره ذلك إذا كانت جعالته منها. قال: لأن الصدقة تخرج من مال المتصدق إلى الأصناف التي سماها الله تعالى، فيملك المصدق بعضها وهي لا تحل له، وخالفه آخرون، وقالوا: لا بأس أن يجتعل منها الهاشمي؛ لأنه إنما يجتعل على عمله [ ص: 136 ] وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يحرم على الأغنياء الذين يحرم عليهم غناهم الصدقة، كان كذلك أيضا في النظر لا يحرم على بني هاشم الذين يحرم عليهم نسبهم الصدقة، وحديث بريرة: هو عليها صدقة ولنا هدية. دليل على ذلك، فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزا للنبي صلى الله عليه وسلم أكله؛ لأنه إنما ملك بالهدية جاز أيضا للهاشمي أن يجتعل من الصدقة؛ لأنه إنما يملكه بعمله لا بالصدقة فهذا هو النظر، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله في ذلك، والله أعلم. اهـ .

وأما دليل عدم جواز أخذها لموالي بني هاشم، فما رواه أبو داود والترمذي والنسائي والطبراني من حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها، قال: حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فأتاه فسأله، فقال: مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذا صححه الحاكم.




الخدمات العلمية