الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني في مقدار القرآن .

، وللقراء عادات مختلفة في الاستكثار والاختصار فمنهم من يختم القرآن في اليوم والليلة مرة وبعضهم مرتين وانتهى بعضهم إلى ثلاث ومنهم من يختم في الشهر مرة وأولى ما يرجع إليه في التقديرات قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقهه وذلك لأن الزيادة عليه تمنعه الترتيل وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لما سمعت رجلا يهذر القرآن هذرا إن هذا ما قرأ القرآن ولا ، سكت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يختم القرآن في كل سبع وكذلك كان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يختمون القرآن في كل جمعة كعثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم

التالي السابق


(الثاني في مقدار القراءة، وللقراء عادات مختلفة في الاستكثار والاقتصار) في تمكنهم من الحفظ، وسرعة اللسان وبطئه (فمنهم من يختم) القرآن (باليوم والليلة مرة) ، وكان الشافعي يفعل كذلك في سائر سنته غير شهر رمضان، وأخرج ابن أبي داود في كتاب الشريعة من طريق مالك أن عمر بن حسين كان يختم القرآن في كل يوم وليلة، وروى ابن أبي شيبة ذلك عن علي الأزدي، وعلقمة (وبعضهم مرتين) كان الشافعي إذا دخل شهر رمضان ختم في اليوم والليلة مرتين، وكذلك كان يفعله الأسود وصالح بن كيسان، وأبو شيخ الحنائي، قال ابن عبد البر: كان سعيد بن جبير وجماعة يختمون القرآن مرتين، وأكثر في ليلة (وانتهى بعضهم إلى ثلاث) ختمات أي: في اليوم والليلة .

وروي ذلك عن سليم بن عتر وهو تابعي كبير شهد فتح مصر في عهد عمر، ثم ولاه معاوية القصص، ثم ضم إليه القضاء، مات بدمياط سنة خمس وسبعين .

أخرجه أبو عبيد عن سعيد بن عفير، عن بكر ابن مضر عنه أنه كان يختم من الليلة ثلاث ختمات، ويجامع ثلاث مرات، فلما مات قالت امرأته: يرحمك الله إن كنت لترضي ربك وترضي أهلك.

وأخرجه ابن أبي داود من رواية ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد عنه بنحوه مختصرا، قال النووي في الأذكار: وأكثر ما بلغنا في ذلك عن ابن الكاتب أنه كان يقرأ في اليوم والليلة ثمان ختمات، قال الحافظ في تاريخه: ابن الكاتب هذا حسين بن أحمد يكنى أبا علي ذكره أبو القاسم القشيري في الرسالة، وأرخ وفاته بعد الأربعين وثلاثمائة .

وأخرج أثره هذا أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية عن أبي عثمان المغربي، واسمه سعيد قال: كان ابن الكاتب فذكره. وقال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا أحمد بن الحسين الحذاء، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني محمد بن عيينة، حدثني [ ص: 472 ] مخلد بن الحسين، سمعت هشام بن حسان يقول: كنت أصلي إلى جنب منصور بن زاذان فكان إذا جاء شهر رمضان ختم بنا بين المغرب والعشاء ختمتين، ثم قرأ إلى الطواسين قبل أن تقام الصلاة، وكانوا إذ ذاك يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يذهب ربع الليل، وكان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر، ويختمه فيما بين المغرب والعشاء.

وقال أبو نعيم أيضا: حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا محمد بن زكريا بن إسماعيل، سمعت مخلد بن الحسين يحدث عن هشام بن حسان صليت إلى جنب منصور بن زاذان يوم الجمعة في مسجد واسط فختم القرآن مرتين، وقرأ الثالثة إلى الطواسيم، قال مخلد: ولو غير هذا حدثني بهذا لم أصدقه .

وقال أبو نعيم أيضا: حدثنا مخلد بن جعفر، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا عباس هو الدوري، حدثنا يحيى ابن أبي بكر، حدثنا شعبة عن هشام بن حسان قال: صليت إلى جنب منصور بن زاذان فقرأ القرآن فيما بين المغرب والعشاء، وبلغ في الثانية إلى النحل، وأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل، عن الدورقي عن يحيى بن أبي بكر، وسنده صحيح، (ومنهم من يختم في الشهر مرة) ، وقد ورد الأمر به مصرحا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الترمذي والنسائي وأصله في الصحيحين، كما سيأتي قريبا، وأكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة (وأولى ما يرجع إليه في التقديرات قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه ) ، قال العراقي: رواه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر وصححه الترمذي اهـ .

قلت: رواه الترمذي والنسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عبد الله بن عمر، ورفعه بلفظ: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث، ورواه أحمد عن عفان بن مسلم ويزيد بن هارون كلاهما عن همام بن يحيى، عن قتادة، ورواه أبو داود، والدارمي عن محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، ورواه أبو داود الطيالسي عن همام بن يحيى.

وقد جاء في كراهية قراءته في أقل من ثلاث عن جماعة من الصحابة منهم معاذ بن جبل، قال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يزيد هو ابن هارون، حدثنا هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وأخرجه ابن أبي داود من رواية سفيان الثوري، وخالد بن عبد الله كلاهما، عن هشام بن حسان، ومنهم عبد الله بن مسعود، أخرج سعيد بن منصور وابن أبي داود من طريق أبي الأحوص عنه، قال: لا تقرءوا القرآن في أقل من ثلاث.

وأخرج ابن أبي داود أيضا من طرق عنه من قوله، ومن فعله، وقال أبو عبيد حدثنا حجاج هو ابن محمد ويزيد هو ابن هارون، الأول، عن شعبة والثاني عن سفيان الثوري كلاهما، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، وهو ابن عبد الله بن مسعود، عن ابن مسعود قال: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز.

وأخرجه ابن أبي داود من رواية شعبة وسفيان من طرق أخرى عن أبي إسحاق، عن عبيدة، وروى سعيد بن منصور من طرق جماعة من التابعين أنهم كانوا يقرؤن في ثلاث منهم إبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي والمسيب بن رافع، وطلحة بن مصرف وحبيب بن أبي ثابت، وقد جاء ذلك في حديث مرفوع .

قال الدارمي: حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا عقبة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، حدثني عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أقرأ القرآن في أقل من ثلاث، عبد الرحمن بن زياد فيه مقال، ولكن يتقوى حديثه بشواهد (لأن الزيادة على ذلك تمنع الترتيل) ، وجعل ابن حزم الظاهري قراءته في أقل من ثلاث حراما، فقال: يستحب أن يختم القرآن مرة في الشهر، ويكره أن يختم في أقل من خمسة أيام فإن فعل ففي ثلاثة أيام لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ذلك، ولا يجوز لأحد أن يقرأ أكثر من ثلث القرآن في يوم وليلة، ثم استدل على ذلك بالحديث المتقدم .

قال الولي العراقي: ولا حجة في ذلك على تحريمه، ولا يقال كل من لم يتفقه في القرآن فقد ارتكب محرما، ومراد الحديث أنه لا يمكن مع قراءته في أقل من ثلاث التفقه فيه، والتدبر لمعانيه، ولا يتسع الزمان لذلك، وقد روي عن [ ص: 473 ] جماعة من السلف قراءة القرآن كله في ركعة واحدة منهم عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، اهـ .

(فقد قالت عائشة رضي الله عنها: لما سمعت رجلا يهذر القرآن هذرا أن هذا ما قرأ القرآن، ولا سكت ) ، أخرج ابن أبي داود في كتاب الشريعة، عن محمد بن بشار، ويزيد بن محمد بن المغيرة كلاهما عن وهب بن جرير، عن أبيه، سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن زياد بن ربيعة بن سفيان الحضرمي، عن مسلم بن مخران قال: قلت لعائشة رضي الله عنها إن رجلا يقرأ حزبه القرآن في ليلة مرتين، أو ثلاثا، فقالت: قرأه ولم يقرأه. الحديث، (وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو) بن العاص (رضي الله عنهما أن يختم القرآن في كل سبع ) ، قال العراقي: متفق عليه من حديثه، اهـ .

قلت: رواه البخاري عن إسحاق بن منصور، ومسلم عن القاسم بن زكريا كلاهما عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان بن عبد الرحمن، ثنا يحيى بن أبي كثير، ثنا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أعني يحيى وأحسبني سمعته من أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرإ القرآن في شهر، قلت: إني أجد قوة، قال: اقرأه في عشر قلت: إني أجد قوة قال: اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك، وله شاهد من حديث غريب .

قال الحافظ أبو عبد الله بن منده، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا ابن لهيعة، حدثني حبان بن واسع بن حبان، عن أبيه، عن قيس بن أبي صعصعة - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن قال: في خمس عشرة قال: إني أجدني أقوى من ذلك قال: اقرأه في جمعة.

وأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن، عن يحيى بن بكر، عن ابن لهيعة، وأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل، وأبو بكر بن أبي داود في كتاب الشريعة جميعا، عن محمد بن يحيى، عن سعيد بن أبي مريم، وأخرجه أبو علي بن السكن في كتاب الصحابة، عن إبراهيم بن حمدويه، عن أبي حاتم الرازي، قال ابن السكن، وابن أبي داود: ليس لقيس غيره زاد الأخير وهو الضاري شهد بدرا، وزاد ابن السكن لم يروه غير ابن لهيعة، (وكذلك كان جماعة من الصحابة يختمون القرآن في كل جمعة) مرة، (كعثمان) بن عفان، (وزيد بن ثابت و) عبد الله (بن مسعود وأبي ابن كعب رضي الله عنهم) ، هكذا نقله عنهم صاحب القوت فنقل عن عثمان - رضي الله عنه - كما سيأتي بيانه في وجه القسمة في الأدب الثالث، ثم قال: وكذلك زيد بن ثابت، وأبي بن كعب كانا يختمان القرآن في كل سبع، وروينا عن ابن مسعود أنه سبع القرآن في سبع ليال اهـ .

وروى ابن أبي شيبة في المصنف، عن الصحابة الذين كانوا يختمون في سبع، ومن بعدهم من التابعين فذكر فيهم تميما الداري - رضي الله عنه - قال: وأمر به ابن مسعود، وذكر عبد الرحمن بن يزيد، وإبراهيم النخعي وعروة بن الزبير، وأبا مجلز واستحسنه مسروق وذكر أبيا فيمن كان يختمه في ثلاث، وتقدم عن ابن مسعود أيضا أنه كان يختمه في ثلاث .

وقال أبو عبيد في فضائل القرآن، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا شعبة بن محمد بن ذكوان من أهل الكوفة، قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يقول: كان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن في شهر رمضان من الجمعة إلى الجمعة، أخرجه ابن أبي داود في الشريعة من رواية ابن عامر العقدي من رواية يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة بلفظ: في كل أسبوع، وأخرج أيضا من طريق أبي الأحوص، عن ابن مسعود أنه كان يقول: اقرءوا القرآن في سبع وسنده صحيح، وهذا هو مراد ابن أبي شيبة حيث قال: وأمر به ابن مسعود، وقال أبو عبيد أيضا: حدثنا علي بن عاصم حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: كان أبي بن كعب يختم في كل ثمان، وكان تميم الداري يختم في كل سبع.

وأخرج ابن أبي الدنيا الختم في السبع بأسانيد صحيحة، عن عثمان، وابن مسعود، وتميم الداري، وأخرج أيضا عن أبي العالية في أصحابه نحو ذلك، ومن طريق أبي مجلز، عن أئمة الحي، وعن عبد الرحمن بن يزيد، وعلقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، وهؤلاء من كبار التابعين من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأخرج عن جماعة ممن دونهم نحو ذلك، ومن [ ص: 474 ] طريق الهيثم بن حميد، عن رجل عن مكحول قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤن القرآن في سبع، وبعضهم في شهر وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك، قال الحافظ: وهذا أثر ضعيف من أجل الرجل الذي لم يسم. قلت: ولكن ذكر الحافظ الذهبي في الكاشف في ترجمة الهيثم بن حميد أنه راوية مكحول كما سيأتي .



(تنبيه)

وممن كان يختم في كل عشر الحسن البصري، رواه ابن أبي داود بسند لين، ومنهم أبو رجاء العطاردي واسمه عمران بن ملحان رواه ابن أبي داود أيضا، عن أبي الأشهب العطاردي عنه، لكن قيده بشهر رمضان، وأما من كان يختم في ثمان .

فأخرج ابن أبي داود من طريق أبي قلابة، عن ابن المهلب، عن أبي بن كعب قال: اقرءوا القرآن في كل ثمان، وأخرج سعيد بن منصور من وجه آخر، عن أبي قلابة أن أبي بن كعب كان يختم القرآن في كل ثمان، وأما في كل ست، فقال أبو عبيد: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال : كان الأسود بن يزيد يختم القرآن في كل ست، وأما في كل خمس فرواه أبو عبيد بهذا السند إلى إبراهيم قال: كان علقمة بن قيس يختم في خمس، ومن طريق شعبة، عن منصور، عن إبراهيم قال كان علقمة يكره أن يختم في أقل من خمس، وأما في كل أربع فأخرج ابن أبي داود من طريق مغيث بن سمي، قال: كان أبو الدرداء يختم القرآن في كل أربع، والله أعلم .




الخدمات العلمية