الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعندي أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح فأصله أن يرى نفسه محسنا إليه ومنعما عليه وحقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله عز وجل منه الذي هو طهرته ونجاته من النار وأنه لو يقبله لبقي مرتهنا به فحقه أن يتقلد منة الفقير إذ جعل كفه نائبا عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل فليتحقق أنه مسلم إلى الله عز وجل حقه ، والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل .

التالي السابق


(وعندي أن المن) في الأعطية سواء كان في الواجب أو في التطوع (له أصل) يعتمد عليه (ومغرس) تتفرع منه أفنانه (وهو من أحوال القلب وصفاته) المعنوية لا تعلق للجوارح عليها للاعتبار، (ثم تتفرع عليه) أي: على ذلك الأصل (أفعال ظاهرة على اللسان والجوارح) هي ثمرات أفنانه الباسقة على ذلك الأصل، (وأصله أن يرى المعطي نفسه محسنا إليه) بعطائه (ومنعما عليه) به (وحقه أن يرى الفقير) الآخذ (هو المحسن بقبول حق الله منه) ، وهو الواجب عليه إنفاقه (الذي هو طهرته) من الأخلاق الرذيلة من البخل والشح والإقتار، وطهرة ماله كذلك (ونجاته من النار) ؛ إذ يوقى بها من ميتة السوء كما في حديث الترمذي، وإليه يشير حديث البخاري: اتقوا النار ولو بشق تمرة. كما سيأتي، (و) يرى (أنه لو لم يقبله) الفقير منه (لبقي) صاحبه (مرتهنا به) معلقا كالرهن في ذمته، (فحقه أن يتقلد) في عنقه منه (من الفقير) ؛ إذ قبله ولم يرده و (إذ جعل كفه نائبا) في الأخذ (عن الله في قبض حق الله) . وقد أشار صاحب القوت حيث قال: وليكن ناظرا إلى نعمة الله تعالى عليه عارفا بحسن توفيقه له، وأن يعتقد فضل من يعطيه من الفقراء ولا ينتقصه بقلبه ولا يزدريه، وليعلم [ ص: 120 ] أن الفقير خير منه؛ لأنه جعل طهرة وزكاة له ورفعة ودرجة في دار المقامة والحياة، وأنه هو قد جعل سخرة للفقير وعمارة لدنياه، كما حدثنا بعض العارفين قال: أريد مني ترك التكسب، وكنت ذا صنعة جليلة، فجال في نفسي من أين المعاش، فهتف بي هاتف: لا أراك تنقطع إلينا، وتتهمنا فيك، علينا أن نخدمك وليا من أوليائنا، أو نسخر لك منافقا من أعدائنا اهـ .

(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة تقع بيد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل) .

قال العراقي: رواه الدارقطني في الإفراد من حديث ابن عباس وقال: غريب من حديث عكرمة عنه، والبيهقي في الشعب بسند ضعيف اهـ .

وأورده صاحب القوت، ولفظه: قبل أن تقع بيد السائل. اهـ .

(فليتحقق أنه في إعطائه هذا مسلم إلى الله عز وجل حقه، والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل) ، وهذا شأن الموقنين، فإنهم يأخذون الرزق من يد الله تعالى ولا يعبدون إلا إياه ولا يطلبون إلا منه كما أمرهم بقوله: فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ، وفي كتاب الشريعة: العارفون بالله على مراتب؛ منهم الذين يعطون ما بأيديهم كرما آلهيا وتخلقا المستحق وغير المستحق، والآخذ في الحقيقة مستحق؛ لأنه ما أخذ إلا بصفة الفقر والحاجة لا بغيرها، كالتاجر الغني صاحب الآلاف يجوب القفار ويركب البحار ويقاسي الأخطار ويتغرب عن الأهل والولد ويعرض لنفسه وماله للتلف في أسفاره؛ ذلك لطلب درهم زائد على ما عنده، فحكمت عليه صفة الفقر عن مطالعة هذه الأحوال، وهونت عليه الشدائد؛ لأن سلطان هذه الصفة في العبد قوي، فمن نظر هذا النظر الذي هو الحق، فإنه يرى أن كل من أعطاه شيئا أخذه منه ذلك الآخر فإنه مستحق لمعرفته بالصفة التي أخذها منه، إلا أن يأخذها قضاء حاجة له لكونه يتضرر بالرد عليه أو لستر مقامه بالأخذ؛ فذلك يده يد حق، كما ورد أن الصدقة تقع بيد الرحمن قبل وقوعها بيد السائل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، فهذا أخذ من غير خاطر حاجة في لوقت وغاب عن أصله الذي حركه للأخذ، وهو أن تقتضيه حقيقة الممكن، فهذا شخص قد استترت عنه حقيقته في الأخذ بهذا الأمر العرض، فنحن نعرفه حين يجهل نفسه فما أعطى الأغنى عما أعطاه سواء كان لغرض أو عوض أو ما كان، فإنه غني عما أعطي وما أخذ إلا مستحق أو محتاج لما أخذ لغرض أو عوض أو مكان؛ لأن الحاجة إلى تربية ما أخذ حاجة؛ إذ لا يكون مربيا إلا بعد الأخذ فافهم فإنه دقيق غامض. اهـ .

وقال في موضع آخر: الصدقة إذا حصلت في يد المتصدق عليه أخذها الرحمن بيمينه، فإن كان المعطي في نفس هذا العبد حين يعطيه هو الله فلتكن يده تعلو يد المتصدق عليه ولا بد؛ فإن اليد العليا هي يد الله، وإن شاهد هذا المعطي يد الرحمن أخذه منه حين يتناولها المتصدق عليه، فتبقى يده من حيث الله تعالى على يد الرحمن كما هي؛ فإنه صفته له، والرحمن نعت من نعوت الله تعالى، ولكن ما يؤخذ منها عينها وإنما يناله تقوى المعطي في إعطائه، وأكمل وجوهه، فيشهد المعطي أن الله هو المعطي وأن الرحمن هو الآخذ، فإذا أخذها الرحمن في كفه بيمينه جعل محلها هذا العبد فأعطاه الرحمن إياها، ولا يتمكن إلا ذلك؛ فإن الصدقة رحمة فلا يوصيها إلا الرحمن بحقيقته، وتناولها الله من حيث ما هو موصوف بالرحمن الرحيم لا من حيث مطلق الاسم، فمثل هذه الصدقة إذا أكلها المتصدق عليه أثمرت له طاعة وهداية ونورا وعلما. اهـ .




الخدمات العلمية