الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
السابع التخصيص وهو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن فإن سمع أمرا أو نهيا ، قدر أنه المنهي والمأمور وإن سمع وعدا أو وعيدا فكمثل ذلك وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود وإنما المقصود ليعتبر به ، وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه فما من قصة في القرآن ، إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ولذلك قال تعالى ما نثبت به فؤادك فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين ; لانتظار نصر الله تعالى .

وكيف لا يقدر هذا ؟ والقرآن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله خاصة ؟ بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالى واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به وقال عز وجل لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد فهذا القارئ الواحد مقصود فما له ، ولسائر الناس فليقدر أنه المقصود قال الله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ قال محمد بن كعب القرظي من بلغه القرآن ، فكأنما كلمه الله وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله ، بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ، ويعمل بمقتضاه ولذلك قال بعض العلماء : هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات ، ونقف عليها في الخلوات ، وننفذها في الطاعات ، والسنن المتبعات .

وكان مالك بن دينار يقول : ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض .

وقال قتادة لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان ، قال تعالى : هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا .

التالي السابق


( السابع التخصيص وهو أن يقدر) التالي في نفسه، ويشهد (أنه) هو (المقصود بكل خطاب) ، جاء (في القرآن) من فاتحته إلى خاتمته، وهو المراد المعني به، (فإن سمع أمرا ونهيا، قدر أنه المنهي والمأمور) ، وأن الخطاب بكل منهما متوجه إليه، (وإن سمع وعدا) بالثواب، (أو وعيدا) بالعقاب (فكمثل ذلك) في التقدير، والشهود .

(وإن سمع قصص الأولين) من السالفين (والأنبياء) عليهم السلام (علم) ، وتحقق (أن السمر) بحكاياتهم فقط، (غير مقصود) لذاته، (وإنما المقصود) الأعظم من ذلك، (ليعتبر به، وليأخذ من تضاعيفه) من الأحوال التي يعتبر بها، (ما يحتاج إليه) في اتخاذه عبرة، وتذكرة، (فما من قصة) سيقت (في القرآن، إلا وسياقها لفائدة) متجددة (في حق النبي صلى الله عليه وسلم) وفي حق (أمته) ، ولو تكررت القصة، ولذا جاء سياقها على أنحاء مختلفة ففي التكرار تثبيت لليقين في القلوب .

(ولذلك قال تعالى) مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم، وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ( ما نثبت به فؤادك ) ، وثبات الفؤاد، إنما يكون بمزيد اليقين فيه، (فليقدر العبد) التالي (أن الله تعالى ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال الأنبياء) عليهم السلام، (وصبرهم على الأذى) من المحجوبين عن نور اليقين، (وثباتهم في) نصرة الحق، وإعلاء كلمة (الدين; لانتظار نصر الله تعالى) إياهم بموجب وعده جل وعز إنا لننصر رسلنا ، (وكيف لا يقدر هذا؟ والقرآن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وحده (خاصة؟ بل هو شفاء) لجهل أمراض القلوب، (وهدى) يهتدي به السارون، (ورحمة) عامة أفيضت على المقتبسين من أنواره، (ونور) ظاهر (للعالمين) .

قال المصنف في مشكاة الأنوار: اعلم أن أعظم الحكم كلام الله تعالى، ومن جملة كلامه القرآن خاصة، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة إذ به يتم الإبصار فبالحري أن يسمي القراءة نورا كما يسمي نور الشمس نورا، فمثال القرآن نور الشمس، ومثال العقل نور العين، وبهذا يفهم معنى قوله تعالى: فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ، وقوله تعالى: قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا اهـ .

(ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب) ، وأردفه بالحكمة لما كانت المبصرات منها ما لا يغادر العقل في كل حال إذا عرض عليه، بل كان محتاجا إلى أن يحضر أعطافه ويستوري زناده، وينبه عليه بالتنبيه، وإنما ينبهه كلام الحكمة فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصرا بالفعل، بعد أن كان مبصرا بالقوة، (فقال تعالى واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة ) ، [ ص: 517 ] فهذا معنى إردافه الحكمة (وقال تعالى لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ) أفلا تعقلون، (وقال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقال تعالى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وقال تعالى هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون وقال تعالى هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) ، وقال تعالى كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ، يعني صفاتهم، وقال تعالى ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ، كما قال تعالى: ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ، وقال تعالى: واتبع ما يوحى إليك واصبر ، وقال تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، وقال تعالى: فاستقم كما أمرت .

فهذه الآيات كلها فيها جميع ما ذكره، وأوصافه، (وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد) ; لأن الله سبحانه وتعالى لما تكلم بهذا الكلام، وخاطب به المؤمنين كان هو أحدهم، وكان حاضرا معهم، وقد سوى الله تعالى بين المؤمنين في تنزيل القرآن عليهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى من المعاني، (فهذا الواحد القارئ المقصود فيما له، ولسائر الناس) غير أنه سبحانه وتعالى عم الجملة بالبصائر، والبيان، وخص بالهدى، والرحمة أولي التقوى والإيمان، (فليقدر أنه المقصود قال الله تعالى: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) فالموقنون هم المتقون، والمهديون هم الموحدون .

(قال محمد بن كعب القرظي ) التابعي تقدمت ترجمته (من بلغه القرآن، فكأنما كلمه الله عز وجل) ، أي فينبغي للتالي أن يشهد في تلاوته أن مولاه يخاطبه بكلامه، (وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله، بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله، ويعمل بمقتضاه) لا أن يشتغل عنه إلى غيره، (ولذا قال بعض العلماء: هذا القرآن رسائل أتتنا من) قبل (ربنا عز وجل بعهوده) ومواثيقه، (نتدبرها في الصلاة، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات، والسنن المتبعات) .

وقد تقدم عن الحسن البصري ما نصه، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل أتتهم من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار، (وكان مالك بن دينار ) رحمه الله، (يقول: ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض) .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا جعفر بن سليمان، قال: سمعت مالكا يقول: يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض، وقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فينبت الحشيش، فتكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن، فيا حملة القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ أين أصحاب سورة؟ أين أصحاب سورتين؟ ماذا عملتم فيهما؟ (وقال) أبو الخطاب (قتادة) بن دعامة الدوسي الحافظ (لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) أي فإن كان من الموصوفين بالإيمان، فيكون شفاء لأمراضهم، وأما المقعدون عن الحدود فلا يزيدهم القرآن إلا نقصا في أعمالهم .




الخدمات العلمية