الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الاستطاعة فنوعان أحدهما المباشرة وذلك له ، أسباب ، أما في نفسه فبالصحة وأما في الطريق فبأن تكون خصبة آمنة بلا بحر مخطر

التالي السابق


ثم إن لوجوب حجة الإسلام بعد اعتبار تلك الشرائط المذكورة شرطا زائدا وهو الاستطاعة ، قال الله تعالى : من استطاع إليه سبيلا وإليه أشار المصنف بقوله (وأما الاستطاعة فنوعان أحدهما) استطاعة (المباشرة ، ولذلك أسباب ، أما في نفسه [ ص: 292 ] فالصحة) وهي قوله : يستمسك بها على الراحلة ، والمراد أن يثبت على الراحلة من غير أن تلحقه مشقة شديدة ، فأما إذا لم يثبت أصلا ، أو كان يثبت ولكن بمشقة شديدة ، فليس له استطاعة المباشرة ، سواء فرض ذلك لمرض أو غيره ؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من لم يحبسه مرض أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " ، وقد تقدم الكلام عليه ، وفي هذا الفصل مسألتان : إحداهما : الأعمى إذا وجد مع الزاد والراحلة قائدا يلزمه الحج بنفسه ؛ لأنه مستطيع له ، والقائد في حقه كالمحرم في حق المرأة ، وبه قال أحمد ، وقال أصحابنا : لا حج عليه ، وهو عبارة الكرخي في مختصره ، وهو ظاهر المذهب عن الإمام ، وهو رواية عن الصاحبين ، وظاهر الرواية عنهما أنه يجب عليه ، وهو رواية الحسن عن الإمام ، وثمرة الخلاف تظهر في وجوب الإحجاج ، فعند الإمام وهو رواية عنهما لا يجب الإحجاج بماله ؛ لأنه بدل عن الحج بالبدل ، وكذا حكم المريض ، والمقعد المفلوج ، والزمن ، ومقطوع الرجلين ، والشيخ الكبير الذي لا يستطيع على الراحلة ، والمحبوس ، والخائف من السلطان كالمريض ، ولما لم يجب الأصل لم يجب البدل ، وعندهما وهو رواية عنه يجب ؛ لأن الأصل وهو الحج بالبدل لزمهم في الذمة ، وقد عجزوا عنه ، فيجب البدل عليهم ، وهذا الخلاف عندنا مبني على أن الصحة من شرائط الوجوب أو وجوب الأداء .

قال الإمام بالأول وهما بالثاني ، ومحل الخلاف فيما إذا لم يقدروا وهم أصحاء ، أما إذا قدروا وهم أصحاء ثم زالت القدرة قبل أن يخرجوا إلى الحج فإنه يتقرر دينا في ذمتهم ، فيجب عليهم الإحجاج بمالهم اتفاقا ، أما إن خرجوا إليه فماتوا في الطريق فإنه لا يجب عليهم الإيصاء بالحج ؛ لأنهم لم يؤخروا بعد الإيجاب ، كذا في التجنيس ، ولو تكلفوا الحج بأنفسهم سقط عنهم حتى لو صحوا بعد ذلك لا يجب عليهم الأداء ؛ لأن سقوط الوجوب عنهم لدفع الحرج ، فإذا تحملوه وقع عن حجة الإسلام كالفقير إذا حج الثانية .

قال الرافعي : المحجور عليه بالسفه كغيره في وجوب الحج عليه ، إلا أنه لا يدفع المال إليه لتبذيره ، بل يخرج الولي معه لينفق عليه في الطريق بالمعروف ، ويكون قواما عليه ، وذكر في التهذيب أنه إذا شرع السفيه في حج الفرض أو في حج نذره قبل الحج بغير إذن الولي لم يكن له أن يحلله ، ويلزمه أن ينفق عليه إلى أن يفرغ ، فإن شرع في حج تطوع ثم حجر عليه كان للولي أن يحلله إن كان ما يحتاج إليه للحج يزيد على نفقته المعهودة ولم يكن له كسب فإن لم يزد أو كان له كسب يفي بقدر النفقة للحج وجب إتمامه ولم يكن للولي أن يحلله ، ثم قال المصنف : (وأما في الطريق فبأن تكون خصبة آمنة) أي ذات خصب وأمن ، ويشترط الأمن في ثلاثة أشياء : على النفس والعرض والمال .

قال إمام الحرمين : ولا يشترط الأمن الذي يغلب في الحضر ، بل الأمن في كل مكان على حسب ما يليق به ، أما الأمن على النفس فعدم الخوف على نفسه من سبع أو عدو في طريق ، ولهذا جاز التحلل عن الإحرام بمثل ذلك ، وهذا إذا لم يجد طريقا آخر آمنا ، أما إذا وجده لزمه سلوكه إذا كان في مثل مسافة الأول ، وأما إذا كان أبعد كما لو لم يجد طريقا سواه . وذكر في التتمة وجها له لا يلزمه كما لو احتاج إلى بذل مؤنة زائدة في ذلك الطريق (بلا بحر مخطر) اعلم أنه لو كان في الطريق بحر لم يخل إما أن يكون له في البر طريق أو لا يكون إن كان لزمه الحج ، وإلا فقد قال في المختصر : ولم يبن لي أن أوجب ركوب البحر في الحج ، ونص في الأم على أنه لا يجب . وفي الإملاء أنه إن كان أكثر معيشة في البحر يجب ، وأظهر القولين في المسألة : إن كان الغالب فيه الهلاك إما باعتبار خصوص ذلك البحر أو هيجان الأمواج في بعض الأحوال لم يلزمه الركوب ، وإن كان الغالب السلامة فأظهر القولين كسلوك طريق البر عند غلبة السلامة . وقال العراقي : ما يغلب فيه الهلاك بحر القلزم ، فإنه كثير الخطر بتجربة ، وما يغلب فيه السلامة بحر الإسكندرية بتجربة . ونقل الإمام عن بعض الأصحاب اللزوم عند جراءة الراكب وعدمه عند استشعاره الخوف ، وإذا قلنا : لا يجب ركوبه فهل يستحب ؟ فيه وجهان : أظهرهما : نعم ، والوجهان فيما إذا كان الغالب السلامة ، أما إذا كان الغالب الهلاك فيحرم الركوب . هكذا نقل الإمام ، وإذا لم نوجب الركوب فلو توسط البحر هل له الانصراف أم عليه التمادي ؟ فيه وجهان : أظهرهما الثاني ، قال في التتمة : وهو المذهب ، وليست الأنهار [ ص: 293 ] العظيمة كجيحون في معنى البحر ؛ لأن المقام فيها لا يطول ، والخطر فيها لا يعظم .

وأما الأمن على العرض فلم يذكره المصنف هنا ، وذكره في الوجيز ، وبيانه أن المرأة لا يجب عليها الحج حتى تأمن على نفسها ، فإن خرج معها زوج أو محرم إما بنسب أو غيره فذلك ، وإلا فينظر إن وجدت نسوة ثقات يخرجن فعليها أن تحج معهن ، وهل يشترط أن يكون مع كل واحدة منهن محرم ؟ فيه وجهان : أحدهما وبه قال القفال : نعم ، وأصحهما : لا ؛ لأن النساء إذا كثرن انقطعت الأطماع منهن ، وكفين أمرهن وإن لم تجد نسوة ثقات لم يلزمها الحج هذا ظاهر المذهب ، ووراءه قولان : أحدهما : أن عليها أن تخرج مع المرأة الواحدة ، ويحكى هذا عن الإملاء ، والثاني : واختاره جماعة من الأئمة أن عليها أن تخرج وحدها إذا كان الطريق مسلوكا ، ويحكى هذا عن الكرابيسي ، وقال أصحابنا : شرط في حج المرأة سواء كانت شابة أو عجوزا شيئان : الأول : الزوج أو المحرم ، وهو من يحرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب قرابة أو رضاع أو مصاهرة ، بشرط أن يكون عاقلا بالغا مسلما مأمونا ، أو كافرا غير مجوسي ، حرا كان أو عبدا ؛ لأن الصبي والمجنون عاجزان عن صيانتها ، والمجوسي يستحل نكاحها ، والفاسق غير أمين ، والصبية التي بلغت حد الشهوة بمنزلة البالغة ، ونفقة المحرم عليها لأنها تتوسل به إلى أداء الحج ، وإذا وجدت المرأة محرما ليس للزوج منعها من الحج المفروض دون النفل ، فلا يجوز لها أن تحج بغيرها إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام ، وفي أقل من ذلك لها أن تخرج بغير محرم وزوج ، إلا أن تكون معتدة ، وإن حجت بغير محرم أو زوج جاز حجها بالاتفاق ، لكنها تكون عاصية ، ومعنى قولهم : لا يجوز لها أن تحج بغير محرم أي لا يجوز لها الخروج إلى الحج ، وأما الحج فإنه يجوز . والثاني : عدم العدة من طلاق بائن أو رجعي أو وفاة ، حتى لو كانت معتدة عند خروج أهل بلدها لا يجب عليها الحج ، فإن حجت وهي في العدة جاز حجها وكانت عاصية ، والله أعلم .




الخدمات العلمية