الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وحدة الوجود

والمذهب الثاني: وحدة الوجود الذي أحدثه المغلوبون السكارى، أو المحجوبون الحيارى.

وقال به جماعة من متأخري المشايخ الذين هم على مراحل من مدارك الشرع، ومفاهيمه ومعاطفه، وهو الذي أشار إليه الحافظ فيما سبق قريبا، وقال فيه: ينبو عنه سمع كل من كان على فطرة الإسلام.

وتقدم على ذلك الكلام منا نقلا عن «سيف السنة الرفيعة».

فإياك أن تغتر بأقوالهم، وتصير مشركا خالصا بالتمسك بمقالاتهم المضادة لكتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم، وبالاعتقاد بها، والجمود عليها.

والذي سماه بعضهم: توحيد العامة، فهو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، وندب إليه، وحث عليه.

وليس وراء بيان الله ورسوله بيان، ولا قرية بعد عبادان.

فمن اعتقد أن ما دل عليه الكتاب والسنة؛ من بيان التوحيد المجمع عليه بين الأنبياء والرسل هو توحيد العامة، وتوحيد الخاصة هو وحدة الوجود، أو ما ذهب إليه الفلاسفة، والملاحدة من الجهمية، ومن أشبههم في ذلك، فقد خلع ربقة الإسلام عن رقبته، وعادى الله ورسوله، وصار يصدق عليه ما أخبرنا الله تعالى به في كتابه: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [النساء: 115].

وقد ذكر البخاري في الباب المشار إليه أربعة أحاديث في المعنى.

منها: حديث معاذ بن جبل في بعثه إلى اليمن، وفيه: «فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك... إلخ». [ ص: 131 ]

وفي رواية: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله... إلخ».

وكذا أخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه البخاري.

قال الحافظ في «الفتح»: وقد تمسك به من قال: أول واجب المعرفة؛ كإمام الحرمين، واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر الناهي.

واعترض عليه بأن المعرفة لا تأتي إلا بالنظر، والاستدلال، وهو مقدمة الواجب، فتجب، فيكون أول واجب النظر.

وذهب إلى هذا طائفة؛ كابن فورك.

وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض، فيكون أول واجب جزء من النظر، وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب.

وعن الأستاذ أبي إسحق الإسفراييني: أول واجب القصد إلى النظر.

وجمع بعضهم بين هذه الأقوال؛ بأن من قال: أول واجب المعرفة؛ أراد: طلبا، أو تكليفا.

ومن قال: النظر، أو القصد، أراد: امتثالا؛ لأنه يسلم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة، فيدل ذلك على سبق وجوب المعرفة.

وقد ذكرت في باب: «كفارة الأيمان» من أعرض عن هذا من أصله، وتمسك بقوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها [الروم: 30]، وحديث: «كل مولود يولد على الفطرة»؛ فإن ظاهر الآية والحديث: أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه، وينصرانه».

وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا، وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة، وتفرع عليها: أن [ ص: 132 ] الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك. انتهى

وقرأت في جزء من كلام شيخ شيوخنا «صلاح الدين العلائي» ما ملخصه: إن هذه المسألة مما تناقضت فيه المذاهب، وتباينت بين مفرط، ومفرط، ومتوسط.

فالطرف الأول: قول من قال: يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى، ونفي الشريك منه.

وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري، وجماعة من الحنابلة، والظاهرية.

ومنهم من بالغ، فحرم النظر في الأدلة، وأسند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار في ذم الكلام كما سيأتي.

والطرف الثاني: قول من وقف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام.

ونسب ذلك لأبي إسحاق الإسفراييني.

وقال الغزالي: أسرفت طائفة، فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها، فهو كافر.

فضيقوا رحمة الله الواسعة، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين.

وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني، وأطال في الرد على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لا يجوز أن يكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها؛ لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة في تعلم الفروع الفقهية.

وأما المذهب المتوسط، فذكره، وسأذكره ملخصا بعد هذا. وقال القرطبي في «المفهم» في شرح حديث: «أبغض الرجال إلى الله الألد [ ص: 133 ] الخصم» الذي تقدم شرحه في أثناء كتاب الأحكام، وهو في أوائل كتاب العلم من «صحيح مسلم»:

هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة.

وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية.

ومدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية تنشأ بسببها على الأخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصاله عنها أجدلهم، لا أعلمهم.

فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها! وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها!

ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله ولا الأطفال لما بحثوا من تحيز الجوهر، والألوان، والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى، وتعديدها، واتحادها في نفسها.

وهل هي الذات أو غيرها؟ وفي الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟

وعلى الثاني: هل ينقسم بالنوع، أو بالوصف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثا؟

ثم إذا انعدم المأمور، هل يبقى التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة إلى غير ذلك مما ابتدعوه مما لم يأمر به الشارع به وسكت عنه الصحابة، ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها؛ لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل؛ لكون العقول لها حد تقف عنده.

ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات، وكيفية الصفات.

ومن توقف في هذا، فليعلم أنه إذا كان حجب عن كيفية نفسه مع وجودها، [ ص: 134 ] وعن كيفية إدراك ما يدرك به، فهو عن إدراك غيره أعجز.

وغاية علم العالم أن يقطع بوجود فاعل لهذه المصنوعات، منزه عن التشبيه، مقدس عن النظير، متصف بصفات الكمال.

ثم متى ثبت النقل بشيء من أوصافه، وأسمائه، قبلناه، واعتقدناه، وسكتنا عما عداه كما هو طريق السلف.

وما عداه لا يأمن صاحبه من الزلل.

وكفى في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين؛ كعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، والشافعي.

وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر، والعرض، وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين، فمن رغب عن طريقتهم، فكفاه ضلالا.

قال: وأفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات.

وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع في الحكم التي استأثر بها.

وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال: ركبت البحر الأعظم، وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارا من التقليد، والآن فقد رجعت، واعتقدت مذهب السلف.

هذا كلامه، أو معناه.

وعنه أنه قال عند موته: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت، ما تشاغلت به.

إلى أن قال القرطبي:

ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان، هما من مباديه، لكان حقيقا بالذم. [ ص: 135 ]

إحداهما: قول بعضهم: إن أول واجب الشك؛ إذ هو اللازم من وجوب النظر، أو القصد إلى النظر.

وإليه أشار الإمام بقوله: ركبت البحر الأعظم.

ثانيتهما: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها، والأبحاث التي حرروها، لم يصح إيمانه.

حتى لقد أورد علي بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك، وأسلافك، وجيرانك، فقال: لا تشنع علي بكثرة أهل النار.

قال: وقد رد بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري، وهو خطأ منه.

فإن القائل بالمسألتين كافر شرعا؛ لجعله الشك في الله واجبا، ومعظم المسلمين كفار حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا، فلا يوجد في الشرعيات ضروري.

وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النفس في هذا الموضع؛ لما شاع بين الناس من هذه البدعة، حتى اغتر بها كثير من الأغمار، فوجب بذل النصيحة، والله يهدي من يشاء. انتهى.

وقال الآمدي في «أبكار الأفكار»: ذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لا يعرف الله بالدليل، فهو كافر؛ لأن ضد المعرفة النكرة، والنكرة كفر.

قال: وأصحابنا مجمعون على خلافه، وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقا، لكن عن غير دليل.

فمنهم من قال: إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب.

ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق، وإن لم يكن عن دليل، وسماه عمليا. [ ص: 136 ]

وعلى هذا: فلا يلزم من حصول المعرفة بهذا الطريق وجوب النظر.

وقال غيره: من منع التقليد، وأوجب الاستدلال، لم يرد التعمق في طرق المتكلمين، بل اكتفى بما لا يخلو عنه من نشأ بين المسلمين من الاستدلال بالمصنوع على الصانع.

وغايته أن يحصل في الذهن مقدمات ضرورية تتألف تألفا صحيحا، وتنتج العلم، لكنه لو سئل: كيف حصل له ذلك؟ ما اهتدى للتعبير به.

وقيل: الأصل في هذا كله المنع من التقليد في أصول الدين.

التالي السابق


الخدمات العلمية