الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الصنف الرابع : قالوا : أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب سبحانه ، واشتغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ، ووظيفته .

1-فأفضل العبادات في وقت الجهاد : الغزو في سبيل الله ، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل ، وصيام النهار ، بل من ترك صلاة الفرض كما في حالة عدم الأمن .

2-والأفضل في وقت حضور الضيف : القيام بحقه ، والاشتغال به .

3-والأفضل في أوقات السحر : الاشتغال بالصلاة ، والقرآن ، والذكر ، والدعاء .

4-والأفضل في وقت الأذان : ترك ما هو فيه من الأوراد ، والاشتغال بإجابة المؤذن .

5-والأفضل في أوقات الصلوات الخمس : الجد ، والجهد في إيقاعها على أكمل الوجوه ، والمبادرة إليها في أول الوقت ، والخروج إلى المسجد ، وأن يعدو .

6-والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج : المبادرة إلى مساعدته بالجاه ، والمال ، والبدن .

7-والأفضل في السفر : مساعدة المحتاج ، وإعانة الرفقة ، وإيثار ذلك على الأوراد ، والخلوة .

8 - والأفضل في وقت قراءة القرآن : جمعية القلب ، والهمة على تدبره والعزم على تنفيذ أوامره ، أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك. [ ص: 320 ]

9-والأفضل في وقت الوقوف بعرفة : الاجتهاد في التفرع ، والدعاء ، والذكر .

10-والأفضل في أيام عشر ذي الحجة ، الإكثار من التعبد ، لا سيما التكبير ، والتهليل ، والتحميد ، وهو أفضل من الجهاد الغير المتعين .

11-والأفضل في العشر الأواخر من رمضان : لزوم المساجد ، والخلوة فيها مع الاعتكاف ، والإعراض عن مخالطة الناس ، والاشتغال بهم ، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم ، وإقراء القرآن عند كثير من العلماء .

12-والأفضل في وقت مرض الأخ المسلم : عيادته ، وحضور جنازته ، وتشييعه ، وتقديم ذلك على الخلوة ، والجمعية .

13-والأفضل في وقت نزول النوازل ، وأذى الناس له : الصبر مع الخلطة بهم .

والمؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم .

وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه .

وعزلتهم في الشر أفضل من خلطتهم فيه .

فإن علم أنه إذا خالطهم ذللوه ، وقللوه ، فخلطتهم خير من اعتزالهم .

وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق .

والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد .

فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلق به من العبادة ، وفارقه ، يرى نفسه كأنه قد نقص ، ونزل عن عادته ، فهو يعبد الله على وجه واحد .

وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه ، يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى .

إن رأيت العلماء ، رأيته معهم ، وكذلك في الذاكرين ، والمتصدقين ، وأصحاب الجمعية ، وعكوف القلب على الله. [ ص: 321 ]

فهذا هو غذاء الجامع السائر إلى الله تعالى في كل طريق .

واستحضر هنا حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه - ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بحضوره : «هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «هل منكم أحد أصبح اليوم صائما ؟ » قال أبو بكر : أنا ، قال: «هل منكم أحد عاد اليوم مريضا ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «هل منكم أحد اتبع اليوم جنازة ؟ » ، قال أبو بكر : أنا الحديث .

وهذا الحديث روي من طريق عبد الغني بن أبي عقيل ، قال: حدثنا نعيم بن سالم ، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه ، فقال : «من صام اليوم ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «من عاد اليوم ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «من شهد اليوم جنازة ؟ » ، قال أبو بكر : أنا ، قال: «وجبت لك ، وجبت لك ؛ يعني : الجنة » .

ونعيم بن سالم -وإن تكلم فيه - لكن تابعه سالم بن وردان ، وله أصل صحيح من حديث مالك عن محمد بن شهاب الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله ، نودي في الجنة : يا عبد الله ! هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة ، نودي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد ، نودي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة ، دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام ، دعي من باب الريان » .

فقال أبو بكر -رضي الله عنه - : يا رسول الله ! ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة ، فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها ؟

قال : «نعم ، أرجو أن تكون منهم » .


هكذا رواه عن مالك موصولا مسندا يحيى بن يحيى ، ومعن بن عيسى ، وعبد الله بن المبارك -رحمهم الله تعالى - .

ورواه يحيى بن بكير ، وعبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن حميد مرسلا ، وليس هو عند القعنبي لا مرسلا ، ولا مسندا . [ ص: 322 ]

ومعنى قوله : «من أنفق زوجين » يعني : شيئين من نوع واحد ؛ نحو درهمين أو دينارين ، أو فرسين ، أو قميصين .

وكذلك من صلى ركعتين ، أو مشى في سبيل الله خطوتين ، أو صام يومين ، ونحو ذلك.

فإنما أراد -والله أعلم - أقل التكرار ، وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر ؛ لأن الاثنين أقل الجمع ، فهذا كالغيث أين وقع نفع ، صحب الله بلا خلق ، وصحب الخلق بلا نفس .

إذا كان مع الله ، عزل الخلق مع البنين ، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه ، عزل نفسه من الوسط ، وتخلى عنها .

فما أعذبه بين الناس ! وما أشد وحشته منهم ! وما أعظم أنسه بالله ، وفرحه به ، وطمأنينته ، وسكونه إليه ! !

واعلم أن للناس في منفعة العبادة ، وحكمتها ، ومقصودها طرائق :

وهم في ذلك أربعة أصناف :

التالي السابق


الخدمات العلمية