الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبالجملة : فقد ثبتت إرادة يتجدد تعلقها ، وثبتت المجازاة في الدنيا ، والآخرة .

وثبت أن مدبر العالم دبر العالم بإيجاب شريعة يسلكونها لينتفعوا بها .

فكان الأمر شبيها بأن السيد استخدم عبيده ، وطلب منهم ذلك، ورضي عمن خدم ، وسخط على من لم يخدم .

فنزلت الشرائع الإلهية بهذه العبارة ، لما ذكرنا أن الشرائع تنزل في الصفات وغيرها ، بعبارة ليس هنالك أفصح ، ولا أبين للحق منها ، سواء أكانت حقيقة لغوية ، أو مجازا متعارفا .

ثم مكنت الشرائع الإلهية هذه المعرفة الغامضة من نفوسهم بثلاث مقامات مسلمة عندهم ، جارية مجرى المشهورات البديهية بينهم .

أحدها : أنه تعالى منعم ، وشكر المنعم واجب ، والعبادة شكر له على نعمه .

والثاني : أنه يجازي المعرضين عنه ، التاركين لعبادته في الدنيا أشد الجزاء .

الثالث : أنه يجازي في الآخرة المطيعين والعاصين .

فانبسطت من هنالك ثلاثة علوم :

1-علم التذكير بآلاء الله .

2-وعلم بأيام التذكير بالله .

3-وعلم التذكير بالمعاد .

فنزل القرآن العظيم شرحا لهذه العلوم .

وإنما عظمت العناية بشرح هذه العلوم ؛ لأن الإنسان خلق في أصل فطرته ميل إلى بارئه -جل مجده - ، وذلك الميل أمر دقيق لا يتشبح إلا بخليقته ، ومظنته . [ ص: 271 ]

وخليقته ، ومظنته - على ما أثبته الوجدان الصحيح - : الإيمان بأن العبادة حق الله تعالى على عباده ؛ لأنه منعم لهم ، مجاز على أعمالهم ، فمن أنكر الإرادة ، أو ثبوت حقه على العباد ، أو أنكر المجازاة ، فهو الدهري الفاقد سلامة فطرته ؛ لأنه أفسد على نفسه مظنة الميل الفطري المودع في جبلته ، ونائبه ، وخليفته ، والمأخوذ مكانه .

وإن شئت أن تعلم حقيقة هذا الميل ، فاعلم أن في روح الإنسان لطيفة نورانية تميل بطبعها إلى الله - عز وجل - ميل الحديد إلى المغناطيس ، وهذا أمر مدرك بالوجدان .

فكل من أمعن في الفحص عن لطائف نفسه ، وعرف كل لطيفة بحالها ، لا بد أن يدرك هذه اللطيفة النورانية ، ويدرك ميلها بطبعها إلى الله تعالى .

ويسمى ذلك الميل عند أهل الوجدان بالمحبة الذاتية ، مثله كمثل سائر الوجدانيات لا يقتنص بالبراهين ؛ كجوع هذا الجائع ، وعطش هذا العطشان .

فإذا كان الإنسان في غاشية من أحكام الطائفة السفلية ، كان بمنزلة من استعمل مخدرا في جسده ، فلم يحس بالحرارة ، والبرودة .

فإذا هدأت لطائفه السفلية عن المزاحمة ، إما بموت اضطراري يوجب تناثر كثير من أجزاء نسمته ، ونقصان كثير من خواصها ، وقواها ، أو بموت اختياري ، وتمسك بحيل عجيبة من الرياضات النفسانية ، والبدنية ، كان كمن زال المخدر عنه ، فأدرك ما كان عنده ، وهو لا يشعره .

فإذا مات الإنسان وهو غير مقبل على الله تعالى ، فإن كان عدم إقباله جهلا بسيطا ، وفقدا ساذجا ، فهو شقي بحسب الكمال النوعي .

وقد يكشف عليه بعض ما هنالك ، ولا يتم الانكشاف لفقد استعداده ، فيبقى حائرا مبهوتا .

وإن كان ذلك مع قيام هيئة مضادة في قواه العلمية أو العملية ، كان فيه [ ص: 272 ] تجاذب ، فانجذبت النفس الناطقة إلى صقع الجبروت والنسمة بما كسبت من الهيئة المضادة إلى السفل .

فكانت فيه وحشة ساطعة من جواهر النفس ، منبسطة على جوهرها .

وربما أوجب ذلك تمثل واقعات هي أشباح الوحشة كما يرى الصفراوي في منامه النيران ، والشعل ، وهذا أصل توجيه حكمة معرفة النفس .

وكان أيضا فيه تحديق غضب من الملأ الأعلى يوجب إلهامات في قلوب الملائكة ، وغيرها من ذوات الاختيار أن تعذبه ، وتؤلمه .

وهذا أصل توجيه معرفة أسباب الخطرات ، والدواعي الناشئة في نفوس بني آدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية