الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد انفصل بعض الأئمة عن ذلك بأن المراد بالتقليد: أخذ قول الغير بغير حجة، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة حتى حصل له القطع بها، فمهما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، كان مقطوعا عنده بصدقه، فإذا اعتقده، لم يكن مقلدا؛ لأنه لم يأخذ بقول غيره بغير حجة.

وهذا مستند السلف قاطبة في الأخذ بما ثبت عندهم من آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بما يتعلق بهذا الباب، فآمنوا بالمحكم من ذلك، وفوضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم.

وإنما قال من قال: إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد على من لم يثبت النبوة، فيحتاج من يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يذعن فيسلم، أو يعاند فيهلك، بخلاف المؤمن؛ فإنه لا يحتاج في أصل إيمانه إلى ذلك، وليس سبب إلا جعل الأصل عدم الإيمان، فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة، وإلا فطريق السلف أسهل من هذا كما تقدم إيضاحه من الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص حتى يحتاج إلى ما ذكر من إقامة الحجة على من ليس بمؤمن.

فاختلط الأمر على من اشترط ذلك، والله المستعان.

واحتج بعض من أوجب الاستدلال باتفاقهم على ذم التقليد، وذكروا [ ص: 137 ] الآيات، والأحاديث الواردة في ذم التقليد، وبأن كل أحد قبل الاستدلال لا يدري أي الأمرين هو الهدى، وبأن كل ما لا يصح بالدليل، فهو دعوى لا يعمل بها، وبأن العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه عن ضرورة، أو استدلال.

وكل ما لم يكن علما، فهو جهل، ومن لم يكن عالما، فهو ضال.

والجواب عن الأول: أن المذموم من التقليد أخذ قول الغير بغير حجة.

وليس من هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله -عز وجل- أوجب اتباعه في كل ما يقول.

وليس العمل بما أمر به، أو نهي عنه داخلا تحت التقليد المذموم اتفاقا.

وأما من دونه ممن اتبعه في قول قاله، واعتقد أنه لو لم يقله، لم يقل هو به، فهو المقلد المذموم، بخلاف ما لو اعتقد ذلك في خبر الله ورسوله؛ فإنه يكون ممدوحا.

وأما احتجاجهم بأن أحدا لا يدري قبل الاستدلال أي الأمرين هو الهدى، فليس بمسلم.

بل من الناس من تطمئن نفسه، وينشرح صدره للإسلام من أول وهلة، ومنهم من يتوقف على الاستدلال.

فالذي ذكروه هم أهل الشق الثاني، فيجب عليه النظر ليقي نفسه النار؛ لقوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا [التحريم: 6]. ويجب على كل من استرشده أن يرشده، ويبرهن له الحق. وعلى هذا مضى السلف الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده.

وأما من استقرت نفسه إلى تصديق الرسول، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل؛ توفيقا من الله، وتيسيرا، فهم الذين قال الله تعالى في حقهم: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم [الحجرات: 7] الآية.

وقال: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [الأنعام: 125] الآية. [ ص: 138 ]

وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم، ولا لرؤسائهم؛ لأنهم لو كفر آباؤهم، أو رؤسائهم، لم يتابعوهم، بل يجدون النفرة عن كل من سمعوا عنه ما يخالف الشريعة.

وأما الآيات والأحاديث، فإنما وردت في حق الكفار الذين اتبعوا من نهوا عن اتباعه، وتركوا اتباع من أمروا باتباعه، وإنما كلفهم الله تعالى الإتيان بالبرهان على دعواهم، بخلاف المؤمنين، فلم يرد قط أنه أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان، وكل من خالف الله ورسوله، فلا برهان له أصلا، وإنما كلف الإتيان بالبرهان تبكيتا وتعجيزا.

وأما من اتبع الرسول فيما جاء به، فقد اتبع الحق الذي أمر به، وقامت البراهين على صحته، سواء علم هو بتوجيه ذلك البرهان، أم لا.

وقول من قال منهم: إن الله ذكر الاستدلال، وأمر به، مسلم.

لكن هو فعل حسن مندوب لكل من أطاقه، وواجب على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق كما تقدم تقريره. وبالله التوفيق.

وقال غيره: قول من قال: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحكم، ليس بمستقيم؛ لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك، وأن طريقة الخلف في استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات.

فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلق، والدعوى في طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له، والخضوع لأمره، والتسليم لمراده.

وليس من سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد، ولا يمكنه القطع بصحة تأويله.

التالي السابق


الخدمات العلمية