الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وكل مكره ومغلوب على عقله فلا يلحقه الطلاق " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما المغلوب على عقله بجنون أو مرض فلا يقع طلاقه ولا يصح عقده .

                                                                                                                                            وأما المكره على الطلاق إذا تلفظ به كرها غير مختار لم يقع طلاقه ولا عتقه ولم تصح عقوده ، وسواء كان ذلك مما لا يلحقه الفسخ كالطلاق أو العتق أو كان مما يلحقه الفسخ ، كالنكاح والبيع ، وبه قال مالك وأكثر الفقهاء .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إن كان مما يلحقه الفسخ كالنكاح والبيع لم يصح من المكره ، وإن كان مما لا يلحقه الفسخ كالطلاق والعتق صح من المكره كما يصح من المختار [ ص: 228 ] استدلالا بقول الله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] . ولم يفرق بين مكره ومختار فكان على عمومه . وبرواية علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والصبي . فدخل طلاق المكره في عموم الجواز .

                                                                                                                                            وبرواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة .

                                                                                                                                            والمكره لا يخلو أن يكون جادا أو هازلا فوجب أن يقع طلاقه .

                                                                                                                                            ولما روي أن صفوان بن عمران كان نائما مع امرأته في الفراش فجلست على صدره ، ووضعت السكين وقالت : طلقني وإلا ذبحتك فناشدها الله فأبت فطلقها ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فقال : " لا إقالة في الطلاق " .

                                                                                                                                            أي لا رجوع فيه ، فدل على وقوعه مع الإكراه .

                                                                                                                                            ومن القياس : أنه طلاق مكلف مالك ، فوجب أن يكون واقعا كالمختار قال : ولأن كل ما لم يمنع من وقوع الطلاق مع الإرادة لم يمنع من وقوعه مع فقد الإرادة كالهزل ، ولأن ما أوجب تحريم البضع مع الاختيار ، أوجب تحريمه مع الإكراه كالرضاع .

                                                                                                                                            ودليلنا : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . فاقتضى أن يكون طلاق المكره مرفوعا . فإن قيل : فالاستكراه لم يرفع لأنه قد يوجد ، قيل المراد به حكم الاستكراه ، لا الاستكراه ، كما أن المراد به حكم الخطأ لا وجود الخطأ . على أنه قد روي : عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . فبان به ما ذكرنا ، فإن قيل فهو محمول على رفع الإثم ، قيل حمله على رفع الحكم أولى لأنه أعم ، لأن ما رفع الحكم قد رفع الإثم ، وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا طلاق في إغلاق .

                                                                                                                                            [ ص: 229 ] قال أبو عبيد : الإغلاق كالإكراه ، يعني أنه كالمغلق عليه اختياره ، فإن قيل المراد به الجنون لأنه معلق الإرادة ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أهل اللغة أقوم بمعانيها من غيرهم فكان حمله على ما قرره أولى .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يحمل على الأمرين فيكون أعم . ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم . قاله خمسة منهم ، لم يظهر مخالف لهم ، منهم عمر روى عنه ابن المنذر ، أن رجلا تدلى بحبل يشتار - أي يجتني عسلا - فأدركته امرأة ، فحلفت لتقطعن الحبل أو ليطلقنها ثلاثا فذكرها الله والإسلام فحلفت لتفعلن أو ليفعلن ، فطلقها ثلاثا فلما خرج أتى عمر بن الخطاب ، فذكر له الذي كان من امرأته إليه ، والذي كان منه إليها ، فقال : ارجع إلى امرأتك فإن هذا ليس بطلاق .

                                                                                                                                            ومنهم علي بن أبي طالب عليه السلام : كان لا يرى طلاق المكره شيئا ، ومنهم عبد الله بن عباس ، قال : ليس على المكره والمضطهد طلاق ، ومنهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير كانا يريان مثل ذلك .

                                                                                                                                            ومن القياس : أنه لفظ حمل عليه بغير حق ، فوجب أن لا يثبت به حكم ، كالإكراه على الإقرار بالطلاق فإن قيل : لا يصح اعتبار الإيقاع بالإقرار ، لأن الإكراه على الرضاع يتعلق به التحريم والإكراه على الإقرار بالرضاع لا يتعلق به تحريم ، والإكراه على الإقرار بالإسلام لا يصح لأن الإقرار خبر به يدخله الصدق والكذب ، وخالف الإيقاع الذي لا يدخله صدق ولا كذب .

                                                                                                                                            فعن ذلك جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن إقرار المكره لم يرتفع لاحتمال دخول الصدق ، والكذب فيه ، لأن هذا المعنى من احتمال الصدق والكذب موجود في إقرار المختار ، وطلاقه واقع وإنما المعنى فيه الإكراه ، وهذا المعنى موجود في الإيقاع .

                                                                                                                                            والثاني : هو أن الرضاع فعل لا يراعى فيه القصد ، فاستوى فيه حكم المكره والمختار ، والإقرار قول يراعى فيه القصد ، فافترق فيه حكم المكره والمختار ، ألا ترى أن المجنونة لو أرضعت ثبت به حكم التحريم ، ولو أقرت به لم يثبت .

                                                                                                                                            والمجنون لو أولد أمته صارت أم ولد ، ولو أعتقها لم تعتق ، فافترق حكم الإكراه على الإرضاع ، وحكم الإقرار بالرضاع ، لأن أحدهما فعل والآخر قول . واستوى حكم الإكراه على إيقاع الطلاق وعلى الإقرار ، لأن كليهما قوله ، وأما الإكراه على فعل الإسلام ، فإنما يصح ويثبت فيمن كان حربيا فيدعى بالسيف إلى الإسلام ، لأن إكراهه عليه واجب قد ورد الشرع به ، ولا يصح إكراه الذمي الباذل للجزية ، لأن الشرع قد أقره عليه ، فكان إكراهه عليه ظلما ، فلم يصح .

                                                                                                                                            [ ص: 230 ] والإكراه على الإقرار بالإسلام إنما هو إكراه على التزام أحكامه ، قبل الإقرار من فعل الصلاة وأداء الزكاة . وهذا ظلم فاستوى حكم الإكراه على الإقرار بالإسلام ، والإكراه على فعل الإسلام في حق الذمي لكونهما ظلما فلم يصحا وافترق حكم الإكراه على الإقرار بالإسلام ، والإكراه على الإسلام في حق الحربي ، لأن الإقرار ظلم فلم يصح ، وفعل الإسلام حق فصح ، فإن وجب ما ذكرناه أن يستوي في الطلاق حكم الإقرار والإيقاع ، لأن كل واحد منهما ظلم ، فوجب أن لا يقعا .

                                                                                                                                            وقياس ثان : وهو أن الإكراه معنى يزيل حكم الإقرار بالطلاق ، فوجب أن يزيل حكم إيقاع الطلاق كالجنون والنوم والصغر .

                                                                                                                                            وقياس ثالث : أنه لفظ يتعلق به الفرق بين الزوجين ، فوجب أن لا يصح إذا حمل عليه فيه حق ، أصله الإكراه على كلمة الكفر .

                                                                                                                                            قياس رابع : أنه قول في أحد طرفي النكاح فوجب أن لا يصح مع الإكراه كالنكاح .

                                                                                                                                            وقياس خامس : أن كل بضع لم يملك بلفظ المكره ، لم يحرم بقول المكره ، كالإيماء في البيع والشراء .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية فهو أنه قال : " فإن طلقها " ، والمكره عندنا غير مطلق ، ولو صح دخوله في عمومها لكان مخصوصا بما ذكرنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والصبي . فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه محمول على حال الاختيار .

                                                                                                                                            والثاني : أن في استثناء الصبي والمعتوه لفقد القصد منهما تنبيه على إلحاق المكره بهما .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد ، فهو أننا نقول بموجبه ونجعل الجد والهزل في وقوع الطلاق سواء ، والمكره ليس بجاد ولا هازل ، فخرج عنها كالمجنون ، لأن الجاد قاصد للفظ مريد للفرقة والهازل قاصد للفظ غير مريد للفرقة والمكره غير قاصد للفظ ولا مريد للفرقة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : لا إقالة في الطلاق فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الرجل أقر بالطلاق وادعى الإكراه فألزمه إقراره ، ولم تقبل دعواه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يجوز أن يكون رأى من جلده وضعف زوجته ما لا يكون به مكرها فألزمه الطلاق . وأما قياسهم على المختار فالمعنى فيه صحة إقراره ، والمكره لا يصح [ ص: 231 ] إقراره فلم يصح إيقاعه وإن شئت قلت القياس عليهم فقلت فوجب أن يكون إيقاعه بهزله إقراره كالمختار .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إن كل ما لم يمنع من وقوع الطلاق مع الإرادة ، لم يمنع وقوعه مع فقد الإرادة فهو أنه ليس المعتبر في وقوع الطلاق ، وجود الإرادة وإنما المعتبر فيه أن يكون من أهل الإرادة ، ثم المعنى في الهازل صحة إقراره .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الرضاع ، فهو أنه ينتقض بالمكره على كلمة الكفر ، ثم المعنى في الرضاع أنه فعل والطلاق قول ، وقد ذكرنا من فرق ما بين الفعل والقول ، بحال المجنونة إذا أرضعت والمجنون إذا طلق ما كفى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية