الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو قال إن شاء الله لم يقع والاستثناء في الطلاق والعتق والنذور كهو في الأيمان " . [ ص: 258 ] قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا علق طلاقه أو عتقه أو يمينه أو نذره أو إقراره بمشيئة الله تعالى ، لم يلزمه شيء من ذلك ، وكذلك جميع عقوده وارتفع حكم الطلاق والعتق والأيمان والنذور والإقرار والعقود .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا هل يكون ذلك الاستثناء يمنع من انعقاد ذلك كله ، أو يكون شرطا يعلق به فلم يثبت حكمه لعدمه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو الظاهر من مذهب الشافعي أنه استثناء يمنع من انعقاده فلا يثبت لذلك كله عقد ولا حكم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه شرط انعقدت عليه هذه الأحكام فلم يلزم لعدم الشرط ، وإن كانت منعقدة فهذا حكم ما عقد بمشيئة الله تعالى من الطلاق والعتق والأيمان والنذور والإقرار والعقود ، في أن جميعه غير لازم ، وبه قال أبو حنيفة وصاحباه .

                                                                                                                                            وقال مالك : تقع بمشيئة الله حكم الأيمان بالله تعالى ولا يرتفع ما سوى الأيمان بالله من الطلاق والعتق والنذور والإقرار .

                                                                                                                                            وبه قال الزهري والليث بن سعد .

                                                                                                                                            وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى : يرتفع بمشيئة الله حكم جميع الأيمان بالله وبالطلاق وبالعتق ، ولا يرتفع به وقوع الناجز من الطلاق والعتق والنذور ، وقال أحمد بن حنبل : يرتفع بمشيئة الله حكم الأيمان كلها ، وحكم الطلاق وإن كان ناجزا ، ولا يرتفع حكم العتق والنذور والإقرار .

                                                                                                                                            فأما مالك فاستدل على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من حلف بالله فقال : إن شاء الله لم يحنث فاقتضى دليل ذلك أن من حلف بغير الله حنث ولأن الاستثناء رافع كالكفارة ، فلما اختصت الكفارة بالأيمان بالله دون غيرها ، وجب أن يكون الاستثناء بمشيئة الله تعالى مختصا بها دون غيرها ، ولأنه في الطلاق والعتق المعلق له بشرط يستحيل وجوده ، فوجب أن يتعجل وقوعه ويسقط شرطه ، كما لو قال : أنت طالق إن صعدت السماء طلقت في الحال لاستحالة الشرط ، قالوا : ولأنه أجرى الله تعالى الطلاق والعتق على لسانه ، مشيئة منه لإيقاعه فوجب أن يرتفع لوجود شرطه .

                                                                                                                                            ودليلنا : رواية نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حلف على يمين ثم قال في إثرها : إن شاء الله لم يحنث فكان على عمومه في الأيمان بالله وفي الطلاق والعتق ، [ ص: 259 ] ولأنه طلاق علق بمشيئة من له مشيئة ، فوجب أن لا يقع قبل العلم بها ، أصله إذا علقه بمشيئة زيد ، ولأنه طلاق علقه بصفة صحيحة فوجب أن لا يقع قبل وجودها ، أصله إذا علقه بدخول الدار ، ولأن كل يمين لو علقها بمشيئة آدمي ، لم تقع قبل العلم بها ، وجب إذا علقها بمشيئة الله أن لا تقع قبل العلم بها كاليمين بالله ، ولأنه لما ارتفع بمشيئة الله حكم اليمين بالله ، مع عظم حرمتها كان رفع ما دونه في الحرمة من العتق والطلاق أولى .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن خبرهم فهو أن خبرنا أعم وأزيد فكان قاضيا على الأخص الأنقص .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن الاستثناء بمشيئة الله كالكفارة في رفع اليمين بهما ، فهو أن الاستثناء رافع لليمين والكفارة غير رافعة : لأن الاستثناء يمنع من انعقاد اليمين ، والكفارة لا تجب إلا بالحنث بعد انعقاد اليمين فافترقا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على تعليق طلاقها بصعود السماء ، فهو أن أصحابنا قد اختلفوا في وقوعه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يقع لأنه مقيد بشرط لم يوجد فأشبه غيره من الشروط التي لا توجد ، ألا تراه لو قال : أنت طالق إن شاء زيد ، وزيد ميت لم تطلق ، وإن كان مقيدا بشرط لم يوجد فعلى هذا يبطل الاستدلال به .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الطلاق يقع والشرط يلغى : لاستحالته ، وأنه في الكلام لغو ، وليست مشيئة الله مستحيل ولا الكلام بها لغو ، بل قد أمر الله تعالى بها وندب إليها بقوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ الكهف : 23 ، 24 ] .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن إجراء الطلاق على لسانه دليل على مشيئة الله تعالى فهو أنه دليل على إرادة إجرائه ، وليس بدليل على إرادة إيقاعه ، ثم ثبت ذلك عليهم في اليمين بالله إذا علقها بصعود السماء كقوله : والله لأضربنك إن صعدت السماء ، فإنها لا تلزم وإن قيدت بشرط مستحيل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية