الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثاني عشر في صفة دخوله بيته وخروجه منه ومخالطته الناس وحديث أصحابه بين يديه واستماعه لهم وحديثه معهم وسمره- صلى الله عليه وسلم-

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أنواع :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : في سيرته صلى الله عليه وسلم- في دخوله بيته وخروجه منه .

                                                                                                                                                                                                                              روى الترمذي والبيهقي عن الحسن بن علي- رضي الله تعالى عنهما- قال : سألت أبي عن مدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان مدخله لنفسه مأذونا له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء ، جزءا لله تعالى ، وجزءا لأهله ، وجزءا لنفسه ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس ، فيرد ذلك على العامة والخاصة ، ولا يدخر عنهم شيئا ، وكان من سيرته صلى الله عليه وسلم في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسمه على قدر فضلهم في الدين فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ، ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مساءلتهم عنه وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب وبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي عن حاجته وفي لفظ «إبلاغها» «فإن من بلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله تعالى قدميه يوم القيامة» لا يذكر عنده إلا ذلك ، ولا يقبل من أحد غيره ، يدخلون عليه روادا ولا يتفرقون إلا عن ذواق ، ويخرجون أدلة يعني على الخير وفي لفظ يعني فقها .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «فيرد ذلك على العامة والخاصة أراد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت ، وكانت الخاصة غير العامة بما سمعت منه فكأنه أوصل الفوائد إلى العامة بالخاصة .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : إن الباء في «بالخاصة» بمعنى من أي : فجعل وقت الخاصة بعد وقت العامة ، وبدلا منهم .

                                                                                                                                                                                                                              والرواد : جمع رائد ، وهو الذي يتقدم القوم يكشف لهم حال الماء والمرعى قبل وصولهم له .

                                                                                                                                                                                                                              ويخرجون أدلة أي : يدلون الناس بما قد علموه منه وعرفوه ، يريد أنهم يخرجون من عنده فقهاء .

                                                                                                                                                                                                                              ومن قال : «أذلة» بذال معجمة جمع ذليل أي : يخرجون من عنده متواضعين .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «ولا يتفرقون من عنده إلا عن ذواق» ضرب الذواق مثالا لما ينالون عنده من [ ص: 382 ]

                                                                                                                                                                                                                              الخير أي لا يتفرقون إلا عن علم يتعلمونه يقوم لهم مقام الطعام والشراب ، لأنه يحفظ الأرواح كما يحفظ الأجسام .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني عن زيد بن عبد الله بن خصيفة عن أبيه عن جده- رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال : «بسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله توكلت على الله ، حسبي الله ونعم الوكيل» .

                                                                                                                                                                                                                              روى الطبراني عن ميمونة- رضي الله تعالى عنها- قالت : ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء ، فقال : «اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أجهل أو يجهل علي أو أظلم أو أظلم» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رجلا اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه بمشقص أو بمشاقص ، وجعل يختله ليطعنه .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن سهل بن سعد الساعدي- رضي الله تعالى عنه- أن رجلا اطلع في حجر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه- فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينيك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما جعل الإذن من قبل البصر» .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : في مخاطبته صلى الله عليه وسلم للناس .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود وأبو الشيخ عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليهم ، وأنا سليم الصدر» . ورواه الترمذي وزاد «قال عبد الله : فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم فانتهيت إلى رجلين جالسين وهما يقولان : ما أراد محمد بالقسمة التي قسمها وجه الله تعالى ، ولا الدار الآخرة فتثبت حين سمعتها فأتيته فأخبرته فقال : «دعني عنك فقد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس كفا وأصدقهم لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا فيما يعنيه دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ولا مشاح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ولا يؤيس منه راجيه ، ولا يخيب فيه قد ترك نفسه من ثلاث :

                                                                                                                                                                                                                              المراء ، والإكثار ، وما لا يعنيه . [ ص: 383 ]

                                                                                                                                                                                                                              وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ولا يعيره ولا يعيبه ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه ، وكأنما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا ، ولا يتنازعون عنده الحديث ، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه .

                                                                                                                                                                                                                              ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم ويقول : «إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيه فيقطعه بنهي أو قيام» ويؤلفهم ولا ينفرهم ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويوهيه معتدل الأمر غير مختلف ، ولا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة لا يقوم من مجلسه إلا على ذكر ، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ولا يوطن المواطن وينهى عن إيطانها ، يعطي كل جلسائه بنصيبه ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول ، قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس علم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن فيه الحرم ، ولا تنثى فلتاته متعادلين ، يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقرون فيه الكبير ، ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد وابن سعد عن جابر بن سمرة- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت ، وكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمور الجاهلية فيضحكون ويتبسم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد والترمذي في الشمائل عن زيد بن ثابت- رضي الله تعالى عنه- قال :

                                                                                                                                                                                                                              كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا ، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجال من قريش ، فذكروا النساء فتحدثوا فيهن ، فتحدث معهم حتى أحببت أن يسكت .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الخرائطي عن أبي حازم وحفص بن عبد الله بن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه عن أمر الآخرة ، فإذا رآهم قد كسلوا عرف ذلك فيهم [ ص: 384 ]

                                                                                                                                                                                                                              حدثهم في بعض أحاديث الدنيا ، حتى إذا نشطوا أقبل يحدثهم في حديث الآخرة .


                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية