الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : لم ينشق القمر لأحد غير نبينا صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : وقع في بعض الروايات عن أنس : فأراهم انشقاق القمر بمكة مرتين رواه الإمام أحمد ومسلم . [ ص: 431 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ ابن كثير : في ذلك نظر ، والظاهر أنه أراد فرقتين وتكلم ابن القيم على هذه الرواية فقال : المرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان أخرى والأول أكثر ومن الثاني «انشق القمر مرتين» أي شقتين وفرقتين ، وقد خفي على بعض الناس فادعى أن انشقاق القمر وقع مرتين ، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط ، لأنه لم يقع إلا مرة واحدة وقال البيهقي : قد حفظ ثلاثة من أصحاب قتادة وهم سعيد بن أبي عروبة ومعمر بن راشد ، وشعبة لكن اختلف عن كل منهم في هذه اللفظة ، ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم ، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بلفظ مرتين ، إنما فيه «فرقتين أو فلقتين» بالراء أو اللام وكذا في حديث ابن عمر «فلقتين» وفي حديث جبير بن مطعم «فرقتين» ، وفي لفظ عنه «فانشق باثنتين» ، وفي رواية عن ابن عباس عن أبي نعيم في «الدلائل» «فصار قمرين» وفي لفظ : «شقتين» ، وعند الطبراني من حديثه «حتى رأوا شقين» قال : ووقع في النظم لشيخنا الحافظ أبي الفضل : وانشق مرتين بالإجماع ، ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم يتعرض لذلك أحد من شراح الصحيحين ثم ذكر كلام ابن القيم وابن كثير قال : وهذا لا يتجه غيره جمعا بين الروايات قال : ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور ولفظه :


                                                                                                                                                                                                                              فصار فرقتين فرقة علت وفرقة للطود منه نزلت     وذاك مرتين بالإجماع
                                                                                                                                                                                                                              والنص والتواتر السماع

                                                                                                                                                                                                                              فجمع بين قوله «فرقتين» وبين قوله «مرتين» فيمكن أن يتعلق قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد ، ووقع في بعض الروايات عن ابن مسعود «وانشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى جزأين» ، وهذا لا يعارض قول أنس أنه كان بمكة ، لأنه لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ليلة بمكة ، وعلى تقدير تصريحه فمنى من جملة مكة ، فلا تعارض وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «فرأيته فرقتين» .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وإنما قال انشق القمر بمكة يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة ، وقول ابن مسعود «انشق القمر نصفين نصفا على جبل أبي قبيس ونصفا على قعيقعان .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وهو محمول على ما ذكرت ، وكذا ما وقع في غير هذه الرواية ومثله روايته عن عبد الله بن مسعود وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد فأخرج من وجه آخر عن ابن مسعود وقال : «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة فوضح أن مراده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة ، ونحرر أن ذلك وقع وهم ليلتئذ بمنى . [ ص: 432 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقال في موضع آخر في الكلام على الجمع بين روايتي ابن مسعود والجمع بين قول ابن مسعود تارة بمنى وتارة بمكة إما باعتبار التعدد إن ثبت ، وإما بالجملة على أنه كان بمنى ، ومن قال كان بمكة لا ينافيه لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس ، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمنى قال فيها : «ونحن بمنى» ، والرواية التي فيها «مكة» لم يقل فيها ونحن وإنما قال : «انشق بمكة» يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة ، وقول ابن مسعود رضي الله عنه انشق القمر نصفين نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان وأن لفظ السويد قال الحافظ : كان ليلتئذ بمكة ، وعلى تقدير تصريحه فمنى من جملة مكة فلا تعارض ، وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود قال : «انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين ، وفي لفظ «السويداء» قال الحافظ : يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على جبل مرتفع بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس ، قال : ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقا حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة فرآه كذلك وفيه بعد ، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه يؤيد ذلك إسنادهم الرواية إلى جهة الجبل ثم قال الحافظ :

                                                                                                                                                                                                                              ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع أول طلوعه ، فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر ، أو التعبير بأبي قبيس من تغيير الرواة ، لأن الفرض ثبوت رؤيته منشقا إحدى الشقتين على جبل والأخرى على جبل آخر ولا يغير ذلك قول الراوي الآخر «رأيت الجبل بينهما» أي بين الفرقتين ، لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره مثلا صدق أن بينهما أي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين أن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوير الشمس وغير ذلك وجواب هؤلاء إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام ثم يشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين ، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أجاب القدماء عن ذلك فقال أبو إسحاق الزجاج في المعاني : أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه ، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه . وأما قول بعضهم لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام وقل من يراصد السماء إلا النادر وقد يقع بالمشاهدة في العادة أي ينكشف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا [ ص: 433 ]

                                                                                                                                                                                                                              يشاهدها إلا الآحاد فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها .

                                                                                                                                                                                                                              قال ذهب بعض أهل العلم من القدماء إلى أن المراد بقوله تعالى وانشق القمر أي سينشق .

                                                                                                                                                                                                                              كما قال تعالى أتى أمر الله [النحل - 1] أي سيأتي والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك فنزل منزلة الواقع ، الذي ذهب إليه الجمهور أصح ، كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [القمر - 2] كما تقدم تقريره في أول الباب ، وذكر الإمام الحليمي أن القمر انشق في عصره وأنه شاهد الهلال في الليلة الثالثة منشقا نصفين عرض كل واحد كعرض القمر ليلة أربع أو خمس ثم اتصل فصار في شكل أترجة إلى أن غاب . [ ص: 434 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية