الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الرابع في طلاقه -صلى الله عليه وسلم- ورجعته وإيلائه وهجره نساءه والعدة والاستبراء

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أنواع :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : في طلاقه ورجعته :

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو يعلى والبزار والحاكم عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلق حفصة أمر أن يراجعها فراجعها .

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو يعلى والبزار برجال ثقات عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال : دخل عمر على حفصة ، وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم- طلقك مرة ثم راجعك من أجلي ، والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني بسند فيه ضعف عن الهيثم أو أبي الهيثم أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق سودة بنت زمعة تطليقة فجلست في طريقه ، فلما مر سألته الرجعة ، وأن تهب قسمها لأي أزواجه شاء؛ رجاء أن تبعث يوم القيامة زوجته ، فراجعها وقبل ذلك منها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني برجال ثقات إلا عمر بن صالح الحضرمي ، فيحرر رجاله ، عن عقبة بن عامر -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فوضع التراب على رأسه ، وقال : ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها . فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تراجع حفصة ، ثم راجعها رحمة بعمر .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة [ثم راجعها] .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : في إيلائه صلى الله عليه وسلم من نسائه وهجره لهن

                                                                                                                                                                                                                              روى البخاري والنسائي عن أنس ، والإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أم سلمة ، ومسلم عن جابر ، والبخاري والنسائي عن ابن عباس ، والإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن الزهري ، وابن ماجه عن عائشة ، والإمام أحمد عن ابن عمر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 60 ] روى الطبراني من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال ابن عباس : كنت أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن قول الله- عز وجل- وإن تظاهرا عليه [التحريم : 4] فكنت أهابه حتى حججنا معه حجة ، فقلت : لإن لم أسأله في هذه الحجة لا أسأله ، فلما قضينا [حجنا] أدركناه ، وهو ببطن مرو قد تخلف لبعض حاجاته ، فقال : مرحبا بك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما حاجتك ؟ قلت : شيء كنت أريد أن أسألك عنه يا أمير المؤمنين ، فكنت أهابك ، فقال سلني عما شئت ، فإنا لم نكن نعلم شيئا حين تعلمنا ، فقلت : أخبرني عن قول الله تعالى : وإن تظاهرا عليه من هما ؟ قال : لا تسأل أحدا أعلم بذلك مني ، كنا بمكة لا يكلم أحدنا امرأته ، إنما هي خادم البيت ، فإن كان له حاجة سفع برجليها فقضى حاجته ، فلما قدمنا المدينة ، تعلمنا من نساء الأنصار ، فجعلن يكلمننا ويراجعننا ، وإني أمرت غلمانا لي ببعض الحاجة ، فقالت امرأتي : بل اصنع كذا وكذا ، فقمت إليها بقضيب فضربتها به ، فقالت : يا عجبا لك يا ابن الخطاب! تريد أن لا تكلم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمه نساؤه ، فخرجت فدخلت على حفصة ، فقلت ؟ يا بنية ، انظري ، لا تكلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عنده دينار ولا درهم يعطيكهن ، فما كانت لك من حاجة حتى دهن رأسك فسليني ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس ، ثم دخل على نسائه امرأة امرأة ، يسلم عليهن ويدعو لهن ، فإذا كان يوم إحداهن جلس عندها .

                                                                                                                                                                                                                              وإنها أهديت لحفصة بنت عمر عكة عسل من الطائف أو من مكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يسلم عليها حبسته حتى تلعقه منها أو تسقيه منها ، وأن عائشة أنكرت احتباسه عندها ، فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها خضراء : إذا دخل على حفصة فادخلي عليها ، فانظري ما يصنع ، فأخبرتها الجارية بشأن العسل ، فأرسلت عائشة إلى صواحبتها ، فأخبرتهن ، وقالت : إذا دخل عليكن فقلن : إنا نجد منك ريح مغافير .

                                                                                                                                                                                                                              ثم إنه دخل على عائشة فقالت : يا رسول الله ، أطعمت شيئا منذ اليوم ، فإني أجد منك ريح مغافير ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد شيء عليه أن يوجد منه ريح شيء ، فقال : هو عسل ، والله لا أطعمه أبدا ، حتى إذا كان يوم حفصة قالت : يا رسول الله ، إن لي حاجة إلى أبي ، إن نفقة لي عنده ، فأذن لي أن آتيه فأذن لها ، ثم إنه أرسل إلى جاريته مارية ، فأدخلها بيت حفصة ، فوقع عليها ، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا ، فجلست عند الباب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع ووجهه يقطر عرقا ، وحفصة تبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : إنما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها على فراشي ، ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن ، أما والله ما يحل لك هذا يا رسول الله ، فقال : والله ، ما صدقت : أليس هي جاريتي ، قد أحلها الله تعالى لي ، أشهدك أنها علي حرام ، ألتمس بذلك رضاك ، انظري لا تخبري بذلك امرأة منهن ، فهي عندك أمانة .

                                                                                                                                                                                                                              فلما خرج [ ص: 61 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة ، فقالت : ألا أبشري ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم أمته ، فقد أراحنا الله منها ، فقالت عائشة : أما والله إنه كان يريبني أنه كان يقبل من أجلها ، فأنزل الله تعالى : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [التحريم : 1] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تظاهرا عليه فهي عائشة وحفصة . وزعموا أنهما كانتا لا تكتم إحداهما للأخرى شيئا .

                                                                                                                                                                                                                              وكان لي أخ من الأنصار إذا حضرت ، وغاب في بعض ضيعته ، حدثته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا غبت في بعض ضيعتي ، حدثني ، فأتاني يوما وقد كنا نتخوف جبلة بن الأيهم الغساني ، فقال : ما دريت ما كان ؟ فقلت : وما ذاك ؟ لعله جبلة بن الأيهم الغساني ، تذكر ، قال : لا ، ولكنه أشد من ذلك ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح ، فلم يجلس كما كان يجلس ، ولم يدخل على أزواجه كما كان يصنع ، وقد اعتزل في مسربته ، وقد ترك الناس يموجون ولا يدرون ما شأنه ، فأتيت والناس في المسجد يموجون ولا يدرون ، فقال : يا أيها الناس كما أنتم ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسربته قد جعلت له عجلة ، فرقى عليها ، فقال لغلام له أسود وكان يحجبه : استأذن لعمر بن الخطاب ، فاستأذن لي فدخلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسربته ، فيها حصير وأهب معلقة ، وقد أفضى بجنبه إلى الحصير ، فأثر الحصير في جنبه ، وتحت رأسه وسادة من أدم ، محشوة ليفا ، فلما رأيته بكيت ، قال : ما يبكيك ؟ قلت : يا رسول الله ، فارس والروم أحدهم يضطجع في الديباج والحرير ، فقال : إنهم عجلت لهم طيباتهم ، والآخرة لنا .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قلت : يا رسول الله ، ما شأنك ؟ فإني قد تركت الناس يموج بعضهم في بعض ، فعن خبر أتاك فقال : اعتزلهن ؟ فقال : لا ، ولكن كان بيني وبين أزواجي شيء فأحببت ألا أدخل عليهن شهرا .

                                                                                                                                                                                                                              ثم خرجت على الناس ، فقلت : يا أيها الناس ، ارجعوا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بينه وبين أزواجه شيء فأحب أن يعتزل ، فدخلت على حفصة ، فقلت : يا بنتي ، أتكلمين رسول الله وتغيظينه وتغارين عليه ؟ فقالت : لا أكلمه بعد بشيء يكرهه ، ثم دخلت على أم سلمة وكانت خالتي ، فقلت لها كما قلت لحفصة ، فقالت : عجبا لك يا عمر بن الخطاب ، كل شيء تكلمت فيه ، حتى تريد أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أزواجه ، وما يمنعنا أن نغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجكم يغرن عليكم ، فأنزل الله تعالى : يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا [الأحزاب : 28] حتى فرغ منها .


                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 62 ] وروى الطبراني وأبو داود بسند جيد واللفظ له عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، وفي رواية «حجة الوداع» ، ونحن معه ، فاعتل بعير لصفية وكان مع زينب فضل ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بعير صفية قد اعتل فلو أعطيتها بعيرا لك! قالت : أنا أعطي هذه اليهودية ؟ ! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرها بقية ذي الحجة ومحرما وصفرا ، وأياما من ربيع الأول حتى رفعت متاعها وسريرها ، فظنت أنه لا حاجة له فيها ، فبينما هي ذات يوم قاعدة نصف النهار ، إذ رأت ظله قد أقبل فأعادت سريرها ومتاعها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد بسند لا بأس به عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال : هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، قال شعبة : أحسبه قال : شهرا ، فأتاه عمر بن الخطاب وهو في غرفة وهو على حصير قد أثر الحصير بظهره ، فقال : يا رسول الله كسرى يشربون في الذهب والفضة وأنت هكذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ، ثم قال رسول الله : الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، وكسر في الثالثة الإبهام .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم والبيهقي والحارث واللفظ له عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبرأ صفية بحفصة ، قيل له : من أمهات المؤمنين أم من غير أمهات المؤمنين ؟ قال : من أمهات المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية