الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك من بان لنا موته على الكفر ، جاز لعنه ، وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم ، فإن كان ، لم يجز .

كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به ، وهو يريد الطائف ، فقال هذا قبر رجل كان عاتيا على الله ورسوله ، وهو سعيد بن العاص فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال : يا رسول الله ، هذا قبر رجل كان أطعم للطعام ، وأضرب للهام من أبي قحافة فقال أبو بكر : يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام ؟ فقال صلى الله عليه وسلم اكفف عن أبي بكر . فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال : يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء ، فكف الناس عن ذلك، وشرب نعيمان الخمر ، فحد مرات في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعض الصحابة لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكن عونا للشيطان على أخيك .

وفي رواية : لا تقل هذا ، فإنه يحب الله ورسوله . فنهاه عن ذلك وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز .

وعلى الجملة ففي لعن الأشخاص خطر فليجتنب ؛ ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلا فضلا عن غيره .

التالي السابق


(وكذلك من بان) أي: ظهر (لنا موته على الكفر، جاز لعنه، وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم ، فإن كان، لم يجز، كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به، وهو يريد الطائف ، فقال) أبو بكر : (هذا قبر رجل كان عاتيا) أي: متمردا (على الله ورسوله، وهو سعيد بن العاص) بن أمية بن عبد شمس بن [عبد] مناف، (فغضب ابنه عمرو بن سعيد ) وهو ابن عمة خالد بن الوليد ، صحابي كبير من مهاجرة الحبشة ، قدم عليهم بخيبر هو وأخوه خالد ، قتل بأجنادين ، وقيل: باليرموك ، وابن أخيه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ، له رؤية، وحفيده عمرو بن سعيد بن العاص ، وهو الأصغر، ويعرف بالأشدق، (وقال: يا رسول الله، هذا قبر رجل كان أطعم للطعام، وأضرب للهام من أبي قحافة ) ، يعني والد أبي بكر ، (فقال أبو بكر : يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم) لعمرو بن سعيد : (اكفف عن أبي بكر . فانصرف) عنه، (ثم أقبل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (على أبي بكر فقال: يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا) أي: اذكروهم بلفظ العموم، (فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء، فكف الناس عن ذلك) ، قال العراقي : رواه أبو داود في المراسيل من رواية علي بن ربيعة قال: "لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة توجه من فوره ذلك إلى الطائف ومعه أبو بكر ، ومعه ابنا سعيد بن العاص ، فقال أبو بكر : لمن هذا القبر؟ قالوا: قبر سعيد بن العاص . فقال أبو بكر : لعن الله صاحب هذا القبر؛ فإنه كان يحاد الله ورسوله" . الحديث، وفيه: "فإذا سببتم المشركين فسبوهم جميعا" .

(وشرب نعيمان) بن عمرو بن رفاعة النجاري من بني مالك بن النجار ، يقال: اسمه نعمان ، فصغر، صحابي بدري، كان يمزح كثيرا، رضي الله عنه، (الخمر، فحد مرات في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعض الصحابة) قال الحافظ في الفتح: اسمه عمير : (لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: لا تكن عونا للشيطان على أخيك. وفي رواية: لا تقل هذا، فإنه يحب الله ورسوله. فنهاه عن ذلك) قال العراقي : رواه ابن عبد البر في الاستيعاب من طريق الزبير بن بكار من رواية محمد بن عمرو بن حزم مرسلا، ومحمد هذا ولد في حياته صلى الله عليه وسلم، وسماه محمدا ، وكناه أبا عبد الملك . اهـ .

قلت: رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة من طريق أبي طوالة ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال: "كان بالمدينة رجل يقال له النعيمان ، يصيب من الشراب.." ، فذكره، ثم قال العراقي : وللبخاري من حديث عمر : "أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، كان يلقب حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد جلده في الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله" . وله من حديث أبي هريرة في رجل شرب ولم يسم، وفيه: "لا تعينوا عليه الشيطان" ، وفي رواية: "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم" . اهـ .

قلت: ورواه البخاري من طريق وهيب عن أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عقبة بن الحارث "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالنعيمان أو ابن النعيمان " ، كذا بالشك، والراجح النعيمان، بلا شك، وفي لفظ لأحمد : "كنت فيمن ضربه" ، وقالا فيه: أتي بالنعيمان ، من غير شك، ورواه بالشك أيضا محمد بن سعد في الطبقات من طريق معمر عن يزيد بن أسلم مرسلا، وجزم ابن عبد البر أن صاحب القصة هو ابن النعيمان ، وما مر من حديث معمر عند البخاري ربما يشهد له، فإنه قال فيه: إن اسمه عبد الله، ويلقب حمارا ، وهذا يقوي قوله: فيكون وقع ذلك له ولابنه، ومن يشابه أبه فما ظلم، وحديث أبي هريرة رواه البخاري من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وحديث ابن عمر عند البخاري فيه قوله: لا تلعنوه . هكذا في سائر روايات البخاري ، وعند الكشميهني : "ألا لا تلعنوه" .

وروى أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة قال: "أتى رجل قد شرب الخمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اضربوه. فقال بعض القوم: أخزاه الله تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا؛ [ ص: 488 ] لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه" .

وروى ابن سعد في الطبقات عن أيوب عن محمد مرسلا: "لا تقولوا للنعيمان إلا خيرا؛ فإنه يحب الله ورسوله" ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه، ووفقوه، وادعوا له بالتوبة، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه" ، ذكره صاحب الكشاف في سورة غافر، وفيه قصة، وقد تقدم ذكرها، (وهذا يدل على أن لعنة فاسق بعينه غير جائزة) ، كما أن الفسق لا يخرج الإنسان عن أخوة الإيمان، (ففي لعنة الأشخاص خطر؛ فليتجنب) عنها، (ولا خطر في السكوت عن لعنة إبليس مثلا فضلا عن غيره) ، وهو هو مع قول الله تعالى في حقه: وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ، فضلا عن غيره، فالساكت عن لعنه لا يلزمه شيء، مع أن الاشتغال به اشتغال فيما لا فائدة فيه، فقد روى ابن أبي الدنيا عن داود بن عمرو ، حدثنا عباد بن العوام ، أخبرنا حصين ، سمعت مجاهدا يقول: "قلما ذكر الشيطان قوم إلا حضرهم، فإذا سمع أحدا يلعنه قال: لقد لعنت ملعنا، ولا شيء أقطع لظهره من لا إله إلا الله" .




الخدمات العلمية