الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
اللفظ الرابع : العقل وهو أيضا مشترك لمعان مختلفة ذكرناها في كتاب العلم ، والمتعلق بغرضنا من جملتها معنيان: أحدهما : أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب .

والثاني : أنه قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة .

ونحن نعلم أن كل عالم فله في نفسه وجود هو أصل قائم بنفسه ، والعلم صفة حالة فيه ، والصفة غير الموصوف ، والعقل قد يطلق ويراد به صفة العالم ، وقد يطلق ويراد به محل الإدراك ، أعني : المدرك وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : " أول ما خلق الله العقل .

" فإن العلم عرض لا يتصور أن يكون أول مخلوق ، بل لا بد وأن يكون المحل مخلوقا قبله أو معه ، ولأنه لا يمكن الخطاب معه .

وفي الخبر أنه قال له تعالى : " أقبل فأقبل ثم قال ، له : أدبر فأدبر " الحديث فإذن قد انكشف لك أن معاني هذه الأسماء موجودة وهي القلب الجسماني والروح الجسماني والنفس الشهوانية والعلوم فهذه . أربعة معان يطلق عليها الألفاظ الأربعة، ومعنى خامس، وهي اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان ، والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها فالمعاني خمسة والألفاظ أربعة وكل لفظ أطلق لمعنيين .

وأكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها ، فتراهم يتكلمون في الخواطر ويقولون : هذا خاطر العقل ، وهذا خاطر الروح ، وهذا خاطر القلب ، وهذا خاطر النفس ، وليس يدري الناظر اختلاف معاني هذه الأسماء ولأجل كشف الغطاء عن ذلك قدمنا شرح هذه الأسامي وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب ، فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء ، وقد يكنى عنه بالقلب الذي في الصدر ؛ لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصة فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة له ولكنها تتعلق به بواسطة القلب فتعلقها الأول بالقلب وكأنه محلها ومملكتها وعالمها ومطيتها ولذلك شبه سهل التستري القلب بالعرش والصدر بالكرسي فقال : القلب هو العرش والصدر هو الكرسي ولا يظن به أنه يرى أنه عرش الله وكرسيه فإن ذلك محال ، بل أراد به أنه مملكته والمجرى الأول لتدبيره وتصرفه فهما بالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى ، ولا يستقيم هذا التشبيه أيضا إلا من بعض الوجوه وشرح ذلك أيضا لا يليق بغرضنا فلنجاوزه .

التالي السابق


(اللفظ الرابع: العقل وهو أيضا مشترك لمعان مختلفة ذكرناها في كتاب العلم، والمتعلق بغرضنا من جملتها) أي: من جملة تلك المعاني المذكورة (معنيان: أحدهما: أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب) وقد ورد في أخبار داود أنه سأل ابنه سليمان عليهما السلام: أين موضع العقل منك؟ قال: القلب؛ لأنه قالب الروح والروح قالب الحياة .

(والثاني: أنه قد

[ ص: 209 ] يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب) ؛ لأنه كذلك و (أعني) بالقلب هنا (تلك اللطيفة) لا المضغة (ونحن نعلم أن كل عالم فله في نفسه وجود هو أصل قائم بنفسه ، والعلم صفة حالة فيه ، والصفة غير الموصوف ، والعقل قد يطلق ويراد به صفة العالم ، وقد يطلق ويراد به محل الإدراك ، أعني: المدرك وهو المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: " أول ما خلق الله العقل") رواه داود بن المجد في كتاب العقل عن صالح المري عن الحسن مرسلا مرفوعا. وابن المجد كذاب، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب العلم (فإن العلم عرض لا يتصور أن يكون أول مخلوق، بل لا بد أن يكون المحل مخلوقا قبله أو معه ، ولأنه لا يمكن الخطاب معه) ولذا قال الحافظ ابن حجر: الوارد في أول ما خلق الله حديث: أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل. (وفي الخبر أنه قال له: " أقبل فأقبل ، وقال له: أدبر فأدبر" الحديث) أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن علي بن مسلم ، عن يسار بن حاتم ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ، حدثنا مالك بن دينار ، عن الحسن البصري مرفوعا مرسلا: " لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل ، ثم قال له: أدبر فأدبر ، قال: ما خلقت خلقا أحب إلي منك ، بك آخذ وبك أعطي" ويسار بن حاتم ضعفه غير واحد ، وقال القواريري: إنه لم يكن له عقل، وقد تقدم الكلام فيه في كتاب العلم مفصلا ، (فإذا قد انكشف لك أن معاني هذه الأسامي موجودة وهو القلب الجسماني والروح الجسماني والنفس الشهوانية والعلوم. وهذه أربعة معان تطلق عليها الألفاظ الأربعة) النفس والروح والقلب والعقل (وكل لفظ أطلق لمعنيين) على ما ذكر آنفا (وأكثر العلماء قد التبس عليه اختلاف هذه الألفاظ وتواردها ، فتراهم يتكلمون في الخواطر ويقولون: هذا خاطر العقل ، وهذا خاطر الروح ، وهذا خاطر النفس ، وهذا خاطر القلب ، وليس يدري الناظر اختلاف معاني هذه الأسماء) والأصل خاطران: ملكي وشيطاني ، فمن الملكي خاطر الروح والعقل والقلب ، ومن الشيطاني خاطر النفس. وخاطر العقل أصله تارة من خاطر الملك وتارة من خاطر النفس ، وليس من العقل خاطر على الاستقلال ، وسيأتي الكلام على ذلك في محله إن شاء الله تعالى .

(فلأجل كشف الغطاء عن ذلك قدمنا شرح هذه الأسامي) ليكون المطالع لكلامنا على بصيرة ولا يخلط اصطلاحا باصطلاح (وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب ، فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء ، وقد يكنى عنه بالقلب الذي) هو (في الصدر ؛ لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب) الذي هو عبارة عن المضغة (علاقة خاصة) كما تقدم ، (فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة له ولكنها تتعلق به بواسطة القلب فتعلقها الأول بالقلب) ثم بسائر البدن (وكأنه محلها ومملكتها وعالمها ومطيتها) قال صاحب العوارف بعد كلام طويل ساقه في تكون القلب من الروح والنفس في عالم الأمر كتكون الذرية من آدم وحواء في عالم الخلق ما نصه: والعقل جوهر الروح العلوي ولسانه والدال عليه وتدبيره للقلب المؤيد والنفس الزاكية تدبير الوالد للولد البار والزوجة الصالحة ، وتدبيره للقلب المنكوس والنفس الأمارة تدبير الوالد للولد العاق والزوجة السيئة ، فمنكر من وجه، ومنجذب إلى تدبيرهما من وجه ؛ إذ لا بد له منهما .

وقول القائلين واختلافهم في محل العقل ، فمن قائل أن محله الدماغ ، ومن قائل أن محله القلب كلام الغائبين عن درك حقيقة ذلك واختلافهم في ذلك لعدم استقرار العقل على نسق واحد وانجذابه إلى البار تارة ، وإلى العاق تارة أخرى ، والقلب والدماغ نسبة إلى البار والعاق ، فإذا رأى تدبير العاق قيل: مسكنه في الدماغ ، وإذا رأى له تدبير البار قيل: مسكنه القلب ، ثم أطال في ذلك بما يأتي بعضه في محله .

(ولذلك شبه) أبو محمد (سهل) بن عبد الله (التستري) رحمه الله تعالى (القلب بالعرش والصدر بالكرسي فقال: القلب هو

[ ص: 210 ] العرش والصدر هو الكرسي) فيما نقله عنه صاحب القوت ، وكذا قال غيره: الروح ثلاثة أجزاء: سلطانية وروحانية وجسمانية ، فموضع السلطان في القلب ، وموضع الروحانية في الصدر ، وموضع الجسمانية بين الدم واللحم ، وقيل: بين العظام والروح (ولا تظن به أنه يرى أنه عرش الله) المعهود (وكرسيه) المشهود (فإن ذلك محال، بل أراد به أنه مملكته) ومحل سلطنته (والمجرى الأول لتدبيره وتصرفه) ثم منه ينصرف إلى سائر أجزاء البدن (فهما بالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى ، ولا يستقيم هذا التشبيه أيضا إلا من بعض الوجوه) ويقرب من ذلك قول من قال منهم: القلب عرش الله الأعظم .

(وشرح ذلك أيضا لا يليق بغرضنا) إذ هو عالم الملكوت (فلنتجاوزه) إلى غيره .



(تنبيه) .

وجد في كلام القوم السر فمنهم من جعله بعد القلب وقبل الروح ، ومنهم من جعله بعد الروح ، وأعلى منه وألطف ، وقالوا: هو محل المشاهدة كما أن الروح محل المحبة ، والقلب محل المعرفة ، ولم يقع لهذا اللفظ ذكر في كتاب الله ولا في السنة إلا في حديث موضوع لا أصل له بلفظ: " وفي القلب فؤاد ، وفي الفؤاد ضمير ، وفي الضمير سر ، وفي السر أنا " . وإنما المذكور في كلام الله الروح والنفس والقلب والفؤاد والعقل .

قال صاحب العوارف: الذي سموه سرا ليس بشيء مستقل بنفسه له وجود كالروح والنفس ، وإنما لما صفت النفس وتزكت انطلقت الروح من وثاق ظلمة النفس ، وأخذت في العروج إلى إدراك القلب ، وانتزع القلب عند ذلك من مستقره متطلعا إلى الروح ، فاكتسب وصفا زائدا على وصفه فانعجم على الواجدين ذلك الوصف ، حيث رأوه أصفى من القلب فسموه سرا ، والذين زعموا أنه ألطف من الروح روح متصفة بوصفه أخص مما عهدوه ، والذين سموه قبل الروح سرا هو قلب اتصف بوصف غير ما عهدوه .




الخدمات العلمية