الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعن ابن المهاجر قال : قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجا ، فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به ، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه، وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلا عند الملتزم وهو يقول : اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع .

فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله ثم خرج ، فجلس ناحية من المسجد ، وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له : أجب أمير المؤمنين فصلى ركعتين واستلم الركن ، وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور : ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم ، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني فقال : يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل ، فقال له أنت آمن على نفسك فقال : الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت .

فقال ويحك : وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي قال : وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم ، وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعوانا ظلمة، إن نسيت لم يذكروك ، وإن ذكرت لم يعينوك وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع والسلاح وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم ، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير ولا أحد إلا وله في هذا المال حق ، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ، أن لا يحجبوا عنك تجبي الأموال ولا تقسمها قالوا : هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا فائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ، وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرا إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ، ويصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بهم على ظلم رعيتك ، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية ، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا ، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت ، للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته، وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه مما يريد خوفا منهم فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ، ويعتل عليه فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك ، فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير فما بقاء الإسلام ، وأهله على هذا ، ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي يا أهل الإسلام فيبتدرونه ما لك ما لك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي ، فقال له وزراؤه ما لك تبكي لا بكت عيناك؟ فقال : أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ، ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب ، فلا أسمع صوته ثم قال : أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم ، فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوما فينصفه ، هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه ، وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك ، فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة ، إن قلت أجمعها لولدي، فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له ، على الأرض مال وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ، ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يشاء ، وإن قلت: أجمع المال لأشيد سلطاني فقد أراك الله عبرا فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة ، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع ، وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد .

وإن قلت: أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها ، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح ، يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد من القتل ، قال : لا ، قال : فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله ، وما أنت عليه من ملك الدنيا ، وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم ، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك ، وأضمرته جوارحك، فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ، ودعاك إلى الحساب هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه مما شححت عليه من ملك الدنيا فبكى المنصور بكاء شديدا حتى نحب وارتفع صوته ، ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئا ثم قال كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائنا ؟ قال : يا أمير المؤمنين عليك بالأئمة الأعلام المرشدين ، قال ومن : هم ؟ قال : العلماء ، قال : قد فروا مني ، قال : هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك ولكن افتح الأبواب ، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم ، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك، فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك .

فقال المنصور : اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل .

وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة ، فخرج فصلى بهم، ثم قال للحرسي : عليك بالرجل إن لم تأتني به لأضربن عنقك واغتاظ عليه غيظا شديدا ، فخرج الحرسي يطلب الرجل ، فبينا هو يطوف فإذا هو بالرجل يصلي في بعض الشعاب فقعد حتى صلى ، ثم قال : يا ذا الرجل أما تتقي الله ؟ قال : بلى ، قال : أما تعرفه ؟ قال : بلى ، قال : فانطلق معي إلى الأمير فقد آلى أن يقتلني إن لم آته بك ، قال : ليس لي إلى ذلك من سبيل، قال : يقتلني ، قال : لا ، قال : كيف ؟ قال : تحسن تقرأ ؟ قال : لا فأخرج من مزود كان معه رقا مكتوبا فيه شيء ، فقال : خذه فاجعله في جيبك ، فإن فيه دعاء الفرج ، قال : وما دعاء الفرج ؟ قال : لا يرزقه إلا الشهداء ، قلت : رحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله ؟ قال : من دعا به مساء وصباحا هدمت ذنوبه ودام سروره ، ومحيت خطاياه ، واستجيب دعاؤه وبسط له في رزقه، وأعطي ، أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقا ولا يموت إلا شهيدا تقول: اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء ، وعلوت بعظمتك على العظماء ، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكانت ، وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، وانقاد كل شيء لعظمتك ، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك ، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك ، اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجا ومخرجا .

اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي، وسترك على قبيح عملي أطمعني ، أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه ، أدعوك آمنا ، وأسألك مستأنسا ، وإنك المحسن إلي وأنا ، المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك ، تتودد إلي بنعمك ، وأتبغض إليك بالمعاصي ، ولكن الثقة بك حملتني على الجراءة عليك ، فعد بفضلك وإحسانك علي إنك أنت التواب الرحيم .

قال فأخذته فصيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين ، فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم ، ثم قال: ويلك وتحسن السحر ، فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ، ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ ، فقال : هات الرق الذي أعطاك ثم جعل يبكي، وقال: قد : نجوت وأمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف درهم، ثم قال : أتعرفه ؟ قلت : لا ، قال : ذلك الخضر عليه السلام .

التالي السابق


(وعن ابن المهاجر) وهو محمد بن مهاجر بن أبي مسلم الأنصاري الشامي مولى أسماء بنت يزيد الأشهلية قال أحمد وابن معين وأبو داود: ثقة وله أحاديث كبار حسان، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: كان متقنا روى عن نافع وربيعة بن يزيد، وعنه أبو مسهر والوحاظي، مات سنة سبعين ومائة روى له الجماعة إلا البخاري، (قال: قدم أمير المؤمنين) أبو جعفر (المنصور) عبد الله بن محمد بن علي (مكة حاجا، فكان يخرج من دار الندوة) أي محل نزول الخلفاء، وهو الموضع الذي كانت قريش تتشاور فيه (إلى الطواف بالبيت في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه) وأعلموه بالوقت، (وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس) إماما، (فخرج ذات ليلة حين أسحر) أي دخل في السحر، (فبينا هو يطوف إذ سمع رجلا عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع، فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله ثم خرج، فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين فصلى ركعتين واستلم الركن، وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله) في الملتزم (من ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم، فوالله لقد حشوت) أي ملأت (مسامعي ما أمرضني وأقلقني) أي أورثني المرض والقلق، (فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل، فقال له أمنتك على نفسك) لا تخف فيما تقوله، (فقال: الذي دخله الطمع حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت) يا أمير المؤمنين، (فقال: وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء) أي الذهب والفضة (في يدي والحلو والحامض في قبضتي) أي ملكي، (قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم) أي جعلك راعيا لهم، (فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر) يعني الأبنية (وأبوابا من الحديد وحجبة) عليها (معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها) أي في تلك البيوت (عنهم، وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعوانا ظلمة، إن نسيت لم يذكروك، وإن أحسنت لم يعينوك) فهم وزراء سوء، (وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع والسلاح وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف القدر ولا أحد) من هؤلاء (إلا ولهم في المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم) أي اخترتهم (على رعيتك، وأمرتهم أن لا يحجبوا عنك تجيء الأموال) من مواضعها، (ولا تقسمها) على أربابها (قالوا: هذا قد خان الله) في مال الله، (فما لنا أن لا نخونه وقد سخر لنا فائتمروا) أي تشاوروا (على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا، وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرا) من الأمور (إلا أقصوه) أي أبعدوه (حتى تسقط منزلته، ويصغر قدره فلما انتشر ذلك [ ص: 80 ] عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم) أي خافوهم (وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا به على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة) أي المال الكثير (من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل فإن جاء متظلم) يشكو ظلامته (حيل بينه وبين الدخول إليك) أي منع، (وإن أرادوا رفع قصة إليك عند ظهورك) للناس (وجدوك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم) وهو صاحب ديوان المظالم، (فإن جاء ذلك الرجل المتظلم فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته، وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه مما يريد خوفا منهم فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه، ويعتل عليه) بعلل كثيرة (فإذا جهد وأخرج وظهرت) أنت (صرخ بين يديك، فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره) ، وعبرة لمن يعتبر، (وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير فما بقاء الإسلام، وأهله على هذا، ولقد كانت بنو أمية) قبلك، (وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته فينصف) ويؤخذ بيده، (ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي يا أهل الإسلام فيبتدرونه) ، ويقولون: (ما لك ما لك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف له) أي يأخذ له الإنصاف، (ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين) وهي أقصى بلاد الهند، (وبها ملك) كافر، (فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم) أي ثقل سمعه (حتى لا يسمع شيئا فجعل يبكي، فقال له وزراؤه ما لك تبكي لا بكت عيناك، فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة) يعني ذهاب السمع (لم نزلت بي، ولكن المظلوم يصرخ بالباب، فلا أسمع صوته، أما إن كان ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم، فكان يركب الفيل) الحيوان المعروف (في طرفي النهار هل يرى مظلوما فينصفه، هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقه على شح نفسه في ملكه، وأنت) بحمد الله تعالى (مؤمن بالله وابن عم نبي الله) صلى الله عليه وسلم (لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك، فإنك لا تجمع المال إلا لواحد من ثلاثة، إن قلت أجمعها لولدي، فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه، وما له على الأرض مال وما من مال إلا ودونه نفس شحيحة تحويه) أي تضمه، (فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست الذي تعطي بل الله يعطي، وإن قلت أجمع المال لأشيد سلطاني فقد أراك الله عبرا فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة) أي المال، (والضعف حين أراد الله بكم ما أراد، وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم) أي أعظم (من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح، يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل، قال: لا، قال: فكيف تصنع [ ص: 81 ] بالملك الذي خولك الله، وما أنت عليه من ملك الدنيا، وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك، وأضمرته جوارحك، فماذا ترى إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك، ودعاك إلى الحساب هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه مما شححت عليه) أي بخلت (من ملك الدنيا) قال: (فبكى المنصور بكاء شديدا حتى انتحب وارتفع صوته، ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئا ثم قال) له (كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائنا؟ قال: يا أمير المؤمنين عليك بالأئمة الأعلام المرشدين، قال: من هم؟ قال: العلماء، قال: قد فروا مني، قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك ولكن افتح الباب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل) أي السوية، (وأنا ضامن من هرب منك أن يأتيك، فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك، فقال المنصور: اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل) ، فبينما هم في هذا (وجاء المؤذنون) يؤذنونه بالصلاة، (فسلموا عليه وأقيمت الصلاة، فخرج فصلى بهم، ثم قال للحرسي: عليك بالرجل إن لم تأتني به لأضربن عنقك واغتاظ عليه غيظا شديدا، فخرج الحرسي يطلب الرجل، فبينا هو يطوف فإذا هو بالرجل يصلي في بعض الشعاب) من تلك الجبال المطيفة بمكة، (فقعد حتى صلى، ثم قال: يا ذا الرجل أما تتقي الله؟ قال: بلى، قال: أما تعرفه؟ قال: بلى، قال: فانطلق معي فقد آلى) أي حلف (أن يقتلني إن لم آته بك، قال: ليس لي إلى ذلك سبيل، قال: يقتلني، قال: لا، قال: كيف؟ قال: تحسن تقرأ؟ قال: لا) أحسن القراءة (فأخرج من مزود) بالكسر مثل الجراب يوضع فيه الزاد (كان معه رقا فيه مكتوب شيئا، فقال: خذه فاجعله في جيبك، فإن فيه دعاء الفرج، قال: وما دعاء الفرج؟ قال: لا يرزقه إلا الشهداء، قلت: رحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله؟ قال: من دعا به مساء وصباحا هدمت ذنوبه ودام سروره، ومحيت خطاياه، واستجيب دعاؤه وبسط له في رزقه، وأعطي أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقا ولا يموت إلا شهيدا تقول: اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء، وعلوت بقدرتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، وانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجا ومخرجا) ، وفي بعض النسخ بعد فرجا: ومن كل ضيق مخرجا، (اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي، وسترك على قبيح عملي، أطعمي أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه، أدعوك آمنا، وأسألك مستأنسا، وإنك المحسن إلي، وإني المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك، تتودد إلي بنعمك، وأتبغض إليك بالمعاصي، ولكن الثقة منك حملتني على الجراءة عليك، فعد بفضلك وإحسانك علي إنك أنت التواب [ ص: 82 ] الرحيم) ، ولا بأس أن يزيد بعد ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، وقد أورد الشهاب البوني في كتابه شمس المعارف في ذكر خواص اسمه اللطيف، وزاد بعده: إنك قلت وقولك الحق: الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز ، (قال) الحرسي: (فأخذته فصيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين، فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم، ثم قال: ويلك وتحسن السحر، فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ، فقال: هات الرق الذي أعطاك ثم جعل يبكي، وقال: قد نجوت ثم أمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف درهم، ثم قال: أتعرفه؟ قلت: لا، قال: ذلك الخضر عليه السلام) .

وقد أورد الحافظ ابن حجر في الإصابة هذه القصة في ترجمة الخضر عليه السلام مختصرة جدا، وفيه: أن أبا جعفر المنصور سمع رجلا يقول في الطواف: أشكو إليك ظهور البغي والفساد، فدعاه ووعظه وبالغ ثم خرج فقال: اطلبوه، فلم يجدوه، فقال: ذلك الخضر.

وفي كتاب الدعاء للطبراني قصة أخرى من طريق محمد بن المهاجر الذي ساق المصنف هذه القصة عنه فقال: حدثنا يحيى بن محمد الحمار، حدثنا المعلى بن حرمي عن محمد بن المهاجر البصري حدثني أبو عبد الله بن التوأم الرقاشي أن سليمان بن عبد الملك أخاف رجلا، وطلبه ليقتله فهرب الرجل، فجعلت رسله تختلف إلى منزل ذلك الرجل يطلبونه، فلم يظفر به، فجعل الرجل لا يأتي بلدة إلا قيل له كنت تطلب ههنا، فلما طال عليه الأمر عزم أن يأتي بلدة لا حكم لسليمان فيها، فذكر قصة طويلة، فبينا هو في صحراء ليس فيها شجر ولا ماء إذا هو برجل يصلي قال: فخفته، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: والله ما هي راحلة ولا دابة، قال: فقصدت نحوه فركع وسجد، ثم التفت إلي فقال: لعل هذا الطاغي أخافك، قلت: أجل، قال: فما منعك من السبع؟ قلت: يرحمك الله وما السبع؟ قال: قل سبحان الواحد الذي ليس غيره إله سبحان القديم الذي لا بادئ له، سبحان الدائم الذي لا نفاد له، سبحان الذي كل يوم هو في شأن سبحان الذي يحيي ويميت، سبحان الذي خلق ما نرى وما لا نرى، سبحان الذي علم كل شيء بغير تعليم، ثم قال قلها، فقلتها وحفظتها والتفت، فلم أر الرجل، قال: وألقى الله في قلبي الأمن ورجعت راجعا من طريقي أريد أهلي، فقلت: لآتين باب سليمان بن عبد الملك، فأتيت بابه فإذا هو يوم إذنه، وهو يأذن للناس فدخلت، وإنه لعلى فرشه، فما عدا أن رآني فاستوى على فراشه، ثم أومأ إلي فما زال يدنيني حتى قعدت معه على الفراش، ثم قال: سحرتني وساحر أيضا مع ما بلغني عنك، فقلت: يا أمير المؤمنين ما أنا بساحر ولا أعرف السحر ولا سحرتك قال: فكيف فما ظننت أنه يتم ملكي إلا بقتلك فلما رأيتك لم أستقر حتى دعوتك، فأقعدتك معي على فراشي ثم قال: اصدقني أمرك، فأخبرته قال تقول أبو سليمان الخضر والله الذي لا إله إلا هو علمكها اكتبوا له أمانه وأحسنوا جائزته واحملوه إلى أهله .




الخدمات العلمية