الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فأما إذا عزم على فاحشة فتعذرت عليه بسبب أو غفلة ، فكيف تكتب له حسنة وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : إنما يحشر الناس على نياتهم ونحن نعلم أن من عزم ليلا على أن يصبح ليقتل مسلما أو يزني بامرأة ، فمات تلك الليلة مات مصرا ويحشر على نيته وقد ، هم بسيئة ولم يعملها .

والدليل القاطع فيه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، فقيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟!! قال لأنه أراد قتل صاحبه، وهذا نص في أنه صار من أهل النار ، بمجرد الإرادة مع أنه قتل مظلوما فكيف يظن أن الله لا يؤاخذ بالنية والهم ، بل كل هم دخل تحت اختيار العبد فهو مؤاخذ به إلا أن يكفره بحسنة ، ونقض العزم بالندم حسنة فلذلك كتبت له حسنة ، فأما فوت المراد بعائق فليس بحسنة ، وأما الخواطر وحديث النفس وهيجان الرغبة فكل ذلك لا يدخل تحت اختيار ، فالمؤاخذة به تكليف ما لا يطاق ، ولذلك لما نزل قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : كلفنا ما لا نطيق أن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ، ثم يحاسب بذلك ، فقال -صلى الله عليه وسلم- : لعلكم تقولون كما قالت اليهود سمعنا وعصينا قولوا: سمعنا وأطعنا فأنزل الله الفرج بعد سنة بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فظهر به أن كل ما لا يدخل تحت الوسع من أعمال القلب هو الذي لا يؤاخذ به ، فهذا هو كشف الغطاء عن هذا الالتباس ، وكل من يظن أن كل ما يجري على القلب يسمى حديث النفس ولم يفرق بين هذه الأقسام الثلاثة فلا بد وأن يغلط وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلب من الكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وجملة الخبائث من أعمال القلب بل السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا أي ما يدخل تحت الاختيار ، فلو وقع البصر بغير اختيار على غير ذي محرم لم يؤاخذ به فإن أتبعها نظرة ثانية كان مؤاخذا به ؛ لأنه مختار فكذا خواطر القلب تجري هذا المجرى ، بل القلب أولى بمؤاخذته ؛ لأنه الأصل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : التقوى ههنا ، وأشار إلى القلب وقال الله تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، وقال صلى الله عليه وسلم الإثم حواز القلوب وقال البر ما اطمأن إليه القلب وإن أفتوك وأفتوك حتى إنا نقول : إذا حكم القلب المفتي بإيجاب شيء ، وكان مخطئا فيه صار مثابا عليه بل من قد ظن أنه تطهر فعليه أن يصلي فإن صلى ، ثم تذكر أنه لم يتوضأ كان له ثواب بفعله فإن ، تذكر ثم تركه كان معاقبا عليه ، ومن وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته لم يعص بوطئها ، وإن كانت أجنبية فإن ، ظن أنها أجنبية ثم وطئها عصى بوطئها وإن كانت زوجته وكل ذلك نظر ، إلى القلب دون الجوارح .

التالي السابق


(فأما إذا عزم على فاحشة وتعذرت عليه بسبب) من الأسباب (أو بغفلة ، فكيف تكتب له حسنة وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : إنما يحشر الناس على نياتهم) قال العراقي : رواه ابن ماجه من حديث جابر دون قوله: " إنما " وله من حديث أبي هريرة : " إنما يبعثهم الله على نياتهم " وإسناده حسن ، ولمسلم من حديث عائشة : " يبعثهم الله على نياتهم" وله من حديث أم سلمة يبعثون على نياتهم (ونحن نعلم أن من عزم ليلا على أن يصبح ويقتل مسلما أو يزني بامرأة ، فمات تلك الليلة مات مصرا) على المعصية (ويحشر على نياته ، قد هم بسيئة ولم يعملها ، والدليل القاطع فيه ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما) فقتل أحدهما صاحبه (فالقاتل والمقتول في النار ، فقيل : يا رسول الله هذا القاتل) يستحق النار (فما بال المقتول؟!!) أي: فما ذنبه (قال) -صلى الله عليه وسلم-: (لأنه أراد قتل صاحبه) قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي بكرة اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد وأبو داود والنسائي ورواه ابن ماجه من حديث أبي موسى ولفظهم جميعا قال: " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " أي: إذا التقيا بآلة القتال يتقاتلان بها سيفا كان أو غيره ، وإنما خص السيف؛ لأنه أعظم آلة وأكثرها استعمالا ، فكل منهما ظالم معتد (وهذا نص في أنه صار من أهل النار ، بمجرد الإرادة مع أنه قتل مظلوما)

[ ص: 297 ] ولا يلزم من كونهما في النار كونهما في رتبة واحدة ، فالقاتل يعذب على القتال والقتل ، والمقتول يعذب على القتال فقط ، وأفاد قوله: " حريصا " أن العازم على المعصية يأثم، وأن كلا منهما كان قصد القتل لا الدفع عن نفسه ، فلو قصد أحدهما الدفع فلم يندفع إلا بقتله فقتل ، هدر المقتول لا القاتل ، ثم هذه المقاتلة يشترط فيها أن يكون عدوانا بغير تأويل سائغ ولا شبهة ، فأما إذا كان بتأويل كقتال علي وطلحة فلا ، فإن كلا لديانته وفرط صيانته كان يرى أن الإمامة متعينة عليه ، ولا يسوغ له تركها (فكيف يظن أن الله لا يؤاخذ بالنية والهم ، وكل ما دخل تحت اختيار العبد فهو مأخوذ به إلا أن يكفره بحسنة ، ونقض العزم بالندم حسنة) وقد روى أحمد والبخاري في التاريخ ، وابن ماجه والحاكم من حديث ابن مسعود : " الندم توبة " (فلذلك كتبت حسنة ، فأما فوات المراد بعائق) من العوائق (فليس بحسنة ، وأما الخواطر وحديث النفس وهيجان الرغبة فكل ذلك لا يدخل تحت الاختيار ، فالمؤاخذة تكليف لما لا يطاق ، ولذلك لما نزل قوله تعالى) : لله ما في السماوات وما في الأرض ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير (جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم جثوا على الركب (فقالوا:) يا رسول الله (كلفنا) من الأعمال (ما) نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية و (لا نطيق أن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ، ثم يحاسب بذلك ، فقال -صلى الله عليه وسلم- : لعلكم تقولون) وفي رواية: أتريدون أن تقولوا (كما قالت بنو إسرائيل) وفي لفظ: كما قال أهل الكتاب من قبلكم ( سمعنا وعصينا ) بل (قولوا: سمعنا وأطعنا ) غفرانك ربنا وإليك المصير فاقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم (فأنزل الله الفرج بقوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) إلى آخرها. قال العراقي : رواه مسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس نحوه . ا هـ .

قلت: وسياق المصنف أشبه بسياق أبي هريرة مع الزيادات التي سقتها في أثنائه دون قوله: " إن أحدنا ليحدث" إلى قوله: " بذلك " وقد رواه كذلك أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر ، وأما لفظ حديث ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم الآية ، دخل في قلوبهم منها شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: قولوا: سمعنا وأطعنا وأسلمنا ، فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فأنزل الله آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه الآية ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال: وقد فعلت، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، قال: قد فعلت، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، قال: قد فعلت ، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا . الآية ، قال: قد فعلت هكذا. رواه أحمد ومسلم والترمذي والحاكم وابن جرير وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن مجاهد، قال: دخلت على ابن عباس فقال: إن هذه الآية لما نزلت غمت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غما شديدا ، وغاظتهم غيظا شديدا ، وقالوا: يا رسول الله ، هلكنا ، إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل ، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قولوا: سمعنا وأطعنا ، فنسختها هذه الآية ، آمن الرسول إلى وعليها ما اكتسبت فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير بسند صحيح عن سعيد بن مرجانة أنه: بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآية ، فقال: والله لإن أخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى حتى سمع نشيجه ، قال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر ، فقال ابن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد ، فأنزل الله بعدها: لا يكلف الله نفسا الآية إلى آخر السورة ، قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل ، وقد روي نحو ذلك من حديث علي وابن مسعود وغيرهما ، وعند الفريابي وابن المنذر عن محمد

[ ص: 298 ] ابن كعب القرظي
قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على المسلمين فقالوا: يا رسول الله أنؤاخذ بما تحدث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا؟ قال: نعم ، اسمعوا وأطيعوا واطلبوا إلى ربكم ، فذلك قوله: آمن الرسول الآية ، فوضع الله عنهم حديث النفس إلا ما عملت الجوارح لها ما كسبت من خير ، وعليها ما اكتسبت من شر ، وفي الآية أقوال أخرى ذكرناها قريبا (فظهر به أن كل ما لا يدخل تحت الوسع من أعمال القلب هو الذي لا يؤاخذ به ، فهذا هو كشف الغطاء عن هذا الالتباس ، وكل من يظن أن كل ما يجري على القلب يسمى حديث النفس ولم يفرق بين هذه الأقسام الثلاثة فلا بد وأن يغلط) في ظنه ويخطئ في فهمه (وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلوب والكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وجملة الخبائث من أعمال القلوب) وعزمها وقد تظاهرت نصوص الشرع وأقوال العلماء على تحريمها (بل السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا أي مما يدخل تحت الاختيار، فلو وقع البصر بغير الاختيار على غير ذي محرم لم يؤاخذ به) وهذا معنى قوله: " النظرة الأولى لك" (فإذا أتبعها نظرة ثانية كان مؤاخذا بها؛ لأنه مختار) ولولا اختياره لما نظر إليها ثانيا ، وهذا معنى قولهم " والثانية عليك " (فكذا خواطر القلب تجري هذا المجرى، بل القلب أولى بمؤاخذته؛ لأنه الأصل ، قال -صلى الله عليه وسلم- : التقوى هاهنا ، وأشار إلى القلب) قال العراقي : رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وقال إلى صدره. (وقال تعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، وقال صلى الله عليه وسلم) فيما رواه ابن مسعود : " ما حاك في صدرك فدعه " (الإثم حواز القلوب) بتشديد الواو وبتشديد الزاي وجهان يعني ما يؤثر فيها فيحزها أو يحوزها لرقتها وصفائها ولينها ولطفها، وقد تقدم في كتاب العلم مفصلا (وقال) -صلى الله عليه وسلم-: (البر ما اطمأن إليه القلب) وسكنت إليه النفس (وإن أفتوك وأفتوك) رواه الطبراني من حديث أبي ثعلبة ولأحمد نحوه من حديث وابصة بلفظ: وإن أفتاك الناس وأفتوك ، وقد تقدما في كتاب العلم ، فهذا وصف قلب مكاشف بالذكر ونعت نفس ساكنه بمزيد السكينة والبر ، ولفظ حديث وابصة: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون ، أي: إن المفتين يعلمون معنى التأويل والرخصة من علمهم العلانية وأنت على علم فوقهم مطالب بالتحقيق والعزيمة على علمك السر (حتى أنا نقول: إذا حكم قلب المفتي بإيجاب شيء ، وكان مخطئا صار مثابا على فعله) نظرا لحكم القلب (بل من ظن أنه متطهر فعليه أن يصلي فإن صلى، ثم تذكر كان له ثواب بفعله ، وإن ترك ثم تذكر كان معاقبا ، ومن وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته) فوطئها (لم يعص بوطئها ، وإن كانت أجنبية في الحقيقة ، وإن ظن أنها أجنبية فوطئها عصى وإن كانت زوجته، نظرا إلى القلب دون الجوارح) ، فالقلوب تؤاخذ بأعمالها وعزومها ، كما أن الجوارح تؤاخذ بأعمالها .




الخدمات العلمية