الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام ولو سكت عنه لم تأثم ، ولم تستضر به في حال ولا مال ، مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك ، وما رأيت فيها من جبال وأنهار وما وقع لك من الوقائع ، وما استحسنته من الأطعمة والثياب ، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر ، وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان ، ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة ، ولا اغتياب لشخص ، ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى ، فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها ، ومن جملتها أن تسأل غيرك عما لا يعنيك فأنت بالسؤال مضيع وقتك ، وقد ألجأت صاحبك أيضا بالجواب إلى التضييع هذا إذا كان الشيء مما يتطرق إلى السؤال عنه آفة ، وأكثر الأسئلة فيها آفات فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلا ، فتقول له هل : أنت صائم ؟ فإن قال : نعم ؛ كان مظهرا لعبادته ، فيدخل عليه الرياء ، وإن لم يدخل سقطت عبادته من ديوان السر ، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات وإن قال : لا ؛ كان كاذبا وإن سكت كان مستحقرا لك وتأذيت به ، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه فقد عرضته بالسؤال إما للرياء ، أو للكذب ، أو للاستحقار أو للتعب في حيلة الدفع وكذلك سؤالك عن سائر عباداته ، وكذلك سؤالك عن المعاصي ، وعن كل ما يخفيه ويستحي منه ، وسؤالك عما حدث به غيرك ، فتقول له : ماذا تقول ؟ وفيم أنت ؟ وكذلك ترى إنسانا في الطريق فتقول من أين ؟ فربما يمنعه مانع من ذكره ، فإن ذكره تأذى به ، واستحيا وإن لم يصدق وقع في الكذب ، وكنت السبب فيه .

وكذلك تسأل عن مسألة لا حاجة بك إليها والمسئول ، ربما لم تسمح نفسه بأن يقول : لا أدري ؛ فيجيب عن غير بصيرة .

ولست أعني بالتكلم فيما لا يعني هذه الأجناس فإن هذا يتطرق إليه إثم أو ضرر .

وإنما مثال ما لا يعني ما روي أن لقمان الحكيم دخل على داود عليه السلام وهو يسرد درعا ، ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم ، فجعل يتعجب مما رأى فأراد ، أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله ، فلما فرغ قام داود ولبسه ثم قال : نعم الدرع للحرب ! فقال لقمان الصمت حكم ، وقليل فاعله أي حصل العلم به من غير سؤال فاستغنى عن السؤال ، وقيل إنه : كان يتردد إليه سنة وهو يريد ، أن يعلم ذلك من غير سؤال فهذا وأمثاله من الأسئلة إذا لم يكن فيه ضرر وهتك ستر وتوريط في رياء وكذب هو ، مما لا يعني ، وتركه من حسن الإسلام ، فهذا حده .

وأما سببه الباعث عليه فالحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه ، أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها .

وعلاج ذلك كله أن يعلم أن الموت بين يديه وأنه مسؤول عن كل كلمة وأن أنفاسه رأس ماله وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين هذا علاجه من حيث العلم ، وأما من حيث العمل ، فالعزلة أو أن يضع حصاة في فيه وأن يلزم نفسه السكوت بها عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه وضبط اللسان في هذا على غير المعتزل شديد جدا .

التالي السابق


( وحد الكلام فيما لا يعنيك ) أي: لا تتعلق به عنايتك، ولا يكون من مقصدك ومطلوبك; لأن العناية شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه، يعنيه، إذا اهتم به وطلبه، (أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم، ولم تستضر به في حال، أو قال: مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك، وما رأيت فيها من جبال وأنهار) ، وبلاد (وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد [ ص: 463 ] ووقائعهم معك) أو مع غيرك، (فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر، وإذا بالغت في الاجتهاد حتى لم تمتزج بحكايتك زيادة أو نقصان، ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة، ولا اغتياب لشخص، ولا مذمة لشيء خلقه الله تعالى، فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك) في تلك الحكايات، (وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها، ومن جملتها أن تسأل غيرك عما لا يعنيك) ، ولا يهمك، (فأنت بالسؤال مضيع وقتك، وقد ألجأت صاحبك أيضا بالجواب إلى التضييع) ، أي: تضييع وقته، (هذا إذا كان الشيء مما لا يتطرق إلى السؤال عنه آفة، وأكثر الأسئلة فيها آفات) لا يخلو منها، (فإنك تسأل غيرك عن عبادته، فتقول له: أنت صائم؟ فإن قال: نعم؛ كان مظهرا لعبادته، فيدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل سقطت عبادته من ديوان السر، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات) ، كما ورد ذلك في بعض الأخبار، (وإن قال: لا؛ كان كاذبا) في قوله، (وإن سكت كان مستحقرا لك) في عدم رد الجواب، (وتأذيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه) ، فانظر، (فقد عرضته بالسؤال إما للرياء، أو الكذب والاستحقار، أو التعب في حالة الدفع) ، فهذه أربع آفات بعضها أعظم من بعض، (وكذلك سؤالك عن سائر عباداته، وكذلك سؤالك عن سائر المعاصي، وعن كل ما تخفيه) عن الناس (وتستحي منه، وسؤالك عما حدث به غيرك، فتقول له: ماذا تقول؟ وفيم أنتم؟ وكذلك ترى إنسانا في الطريق فتقول) له: (من أين؟) ، وإلى أين؟ (فربما يمنعه مانع من ذكره، فإن ذكر تأذى به، واستحيا) هذا إن صدق (وإن لم يصدق وقع في الكذب، وكنت السبب) في ذلك، وقال صاحب القوت: من المحدثات المبتدعة قول الرجل لأخيه إذا لقيه ذاهبا في الطريق: إلى أين تريد؟ أو: من أين جئت؟ فقد كره هذا، وليس من السنة، ولا من الأدب، وهو داخل في التحسس والتجسس; لأن التحسس في الآثار والتجسس في الأخبار، وهذا السؤال عن ذلك يجمعهما، وقد لا يحب الرجل أن يعلم صاحبه أين يذهب، ولا من أين جاء، وقد كره ذلك مجاهد وعطاء، قال: إذا لقيت أخاك في الطريق فلا تسأله من أين جئت؟ ولا أين تذهب؟ فلعله أن يصدقك فتكره ذلك، ولعله أن يكذبك فتكون حملته على الكذب. اهـ .

وكان على هذا القدم شيخنا المرحوم علي بن موسى الحسيني ؛ فإنه من شدة ما ينكر على من يسأله إلى أين؟ ربما يرجع من مقصده وتشاءم، (وكذلك تسأل عن مسألة لا حاجة بك إليها، والمسؤول ربما لم تسمح نفسه بأن يقول: لا أدري؛ فيجيب عن غير بصيرة ولا روية) ، فيقع في خطأ عظيم، (ولست أعني بالتكلم فيما لا يعني هذه الأجناس) وأمثالها؛ (فإن هذا يتطرق إليه إثم أو ضرر) في الحال أو في القال، (وإنما مثال ما لا يعني ما روي أن لقمان الحكيم كان يختلف إلى داود عليه السلام وهو يسرد درعا، ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم، فجعل يتعجب مما رأى، وأراد أن يسأله عن ذلك، والحكمة تمنعه من السؤال، فلما فرغ داود عليه السلام وصبها عليه، وقال: نعم جنة الحرب! فقال) لقمان : (الصمت حكم، وقليل فاعله، أردت أن أسألك عنها فكفيتني. وقيل: كان يتردد إليه سنة، ويريد أن يعلم ذلك من غير سؤال) أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب من حديث أنس : أن لقمان كان عند داود يسرد الدرع، فجعل يفتله هكذا بيده، فجعل لقمان يتعجب ويريد أن يسأله، فلما فرغ منها صبها على نفسه، وقال: نعم درع الحرب هذه! فقال لقمان : الصمت من الحكمة، وقليل فاعله، كنت أردت أن أسألك، فسكت حتى كفيتني ، قال البيهقي : هذا هو الصحيح أنه من كلام لقمان ، (فهذا وأمثاله من الأسئلة ما لكم فيه ضرر وهتك [ ص: 464 ] ستر وتوريط في رياء وكذب، فهو مما لا يعني، وتركه من حسن الإسلام، فهذا حده) ، وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله، من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فهذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، وعلى استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه؛ فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله تعالى، (وأما سببه الباعث عليه فالحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه، أو بالمباسطة بالكلام على سبيل التودد) والتألف، (أو تزجية الأوقات) ، أي: تسويتها (بحكايات أحوال لا فائدة فيها، وعلاج ذلك كله أن يعلم أن الموت بين يديه) ، ولا بد له منه على كل حال؛ (فإنه مسؤول عن كل كلمة) يتكلم بها، (وأن أنفاسه المعدودة) هي (رأس ماله) من الدنيا (وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص به الحور العين) ، والولدان والنعيم، (فإهماله ذلك وتضييعه خسران) ونقصان، (هذا علاجه من حيث العلم، وأما من حيث العمل، فالعزلة) عن الناس، كما قال وهيب بن الورد عن بعض الحكماء: الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، وواحد في العزلة ، فأردت من نفسي الصمت على شيء فلم أقدر عليه، فصرت إلى العزلة؛ فحصلت لي التسعة، وقد تقدم ذلك قريبا، (وأن يضع حصاة في فيه) ، كما كان الصديق رضي الله عنه يفعله، وأن يلزم نفسه السكوت بها عن بعض ما يعنيه؛ حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه، (وضبط اللسان في هذا على غير المعتزل شديد جدا) ؛ فإنه لا يجد بدا من الكلام إذا كان مع جماعة، ويشتد عليه حفظه للسانه، بل ينفلت منه، ولا يقدر على ضبطه، وأما إذا اعتزل مسلم من ذلك، فإنه لا يجد من يخاطب معه، فيرجع إلى نفسه إما بالتفكر أو بالذكر أو بالمراقبة، وهذا علاجه من حيث العمل .




الخدمات العلمية