الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الشرط الثالث : أن يكون المنكر ظاهرا للمحتسب بغير تجسس فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه ، وقد نهى الله تعالى عنه وقصة عمر وعبد الرحمن بن عوف فيه مشهورة وقد أوردناها في كتاب آداب الصحبة وكذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه تسلق دار رجل فرآه على حالة مكروهة ، فأنكر عليه فقال يا أمير المؤمنين إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه، فقال: وما هي؟ فقال: قد قال تعالى: ولا تجسسوا وقد تجسست، وقال تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها وقد تسورت من السطح، وقال: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها وما سلمت، فتركه عمر وشرط عليه التوبة .

ولذلك شاور عمر الصحابة رضي الله عنهم ، وهو على المنبر ، وسألهم عن الإمام إذا شاهد بنفسه منكرا ، فهل له إقامة الحد فيه ؟ فأشار علي رضي الله عنه بأن ذلك منوط بعدلين ، فلا يكفي فيه واحد .

وقد أوردنا هذه الأخبار في بيان حق المسلم من كتاب آداب الصحبة ، فلا نعيدها فإن قلت : فما حد الظهور والاستتار ؟ فاعلم أن من أغلق باب داره وتستر بحيطانه ، فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لنعرف المعصية .

إلا أن يظهر في الدار ظهورا يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت ، بحيث جاوز ذلك حيطان الدار ، فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم ، بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة فإذن : إنما يدرك مع تخلل الحيطان صوت أو رائحة ، فإذا فاحت روائح الخمر فإن احتمل أن يكون ذلك من الخمور المحترمة فلا يجوز قصدها بالإراقة ، وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت لتعاطيهم الشرب ، فهذا محتمل ، والظاهر جواز الحسبة ، وقد تستر قارورة الخمر في الكم ، وتحت الذيل ، وكذلك الملاهي فإذا رؤي فاسق وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عنه ما لم يظهر بعلامة خاصة فإن فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر ؛ إذ الفاسق محتاج أيضا إلى الخل وغيره ، فلا يجوز أن يستدل بإخفائه ، وأنه لو كان حلالا لما أخفاه ؛ لأن الأغراض في الإخفاء مما تكثر وإن كانت الرائحة فائحة، فهذا محل النظر ، والظاهر أن له الاحتساب ؛ لأن هذه علامة تفيد الظن ، والظن كالعلم في أمثال هذه الأمور وكذلك العود ربما يعرف بشكله إذا كان الثوب السائر له رقيقا فدلالة الشكل كدلالة الرائحة والصوت ، وما ظهرت دلالته فهو غير مستور ، بل هو مكشوف ، وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله ، وننكر على من أبدى لنا صفحته .

والإبداء له درجات، فتارة يبدو لنا بحاسة السمع، وتارة بحاسة الشم وتارة بحاسة البصر، وتارة بحاسة اللمس، ولا يمكن أن يخصص ذلك بحاسة البصر، بل المراد العلم، وهذه الحواس أيضا تفيد العلم فإذن إنما يجوز أن يكسر ما تحت الثوب إذا علم أنه خمر ، وليس له أن يقول : أرني لأعلم ما فيه ؛ هذا تجسس ومعنى التجسس طلب الأمارات المعرفة فالأمارة المعرفة إن حصلت وأورثت المعرفة ، جاز العمل بمقتضاها ، فأما طلب الأمارة المعرفة فلا رخصة فيه أصلا .

التالي السابق


(الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهرا للمحتسب بغير تجسيس) وتفتيش، (فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه، وقد نهى الله تعالى عنه) بقوله: ولا تجسسوا (وقصة عمر) بن الخطاب، (وعبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنهما (فيه مشهورة) أخرجها عبد الرزاق في المصنف، وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق، من طريق المسور بن مخرمة، (وقد أوردناها في كتاب آداب الصحبة) والمعاشرة (كذلك [ ص: 35 ] ما روي أن عمر) رضي الله عنه تسلق دار رجل، أي: تسور الحائط، ولم يدخل من الباب (فرآه على حالة مكروهة، فأنكر) عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أنا قد عصيت الله تعالى مرة واحدة، فقد عصيته من ثلاثة أوجه. فقال: وما هي؟ فقال: قد قال الله تعالى: ولا تجسسوا ، وقد تجسست، وقال تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها ، وقد تسورت من السطح، وقال تعالى: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، وما سلمت. فتركه عمر رضي الله عنه (وشرط عليه التوبة) . أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق، من طريق ثور الكندي، ولفظه أن عمر بن الخطاب كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه فوجد عنده امرأة، وعنده خمر، فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي أن أكون عصيت الله واحدة، فقد عصيت الله في ثلاثة: قال: ولا تجسسوا ، وقد تجسست، وقال: وأتوا البيوت من أبوابها ، وقد تسورت علي ودخلت علي بغير إذن، وقال الله: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك. قال: نعم. فعفا عنه وخرج وتركه.

وقد تقدم في كتاب الصحبة، (ولذلك شاور عمر رضي الله عنه الصحابة، وهو على المنبر، وسألهم عن الإمام إذا شاهد بنفسه منكرا، فهل له إقامة الحد على مرتكبه؟ فأشار علي رضي الله عنه بأن ذلك منوط بعدلين، فلا يكفي فيه واحد) ، وسكت عمر ورجع إلى قوله .

(وقد أوردنا هذه الأخبار في بيان حق المسلم على المسلم من كتاب آداب الصحبة، فلا نعيدها) ثانية، (فإن قلت: فما حد الظهور والاستتار؟ فاعلم أن من أغلق باب داره وتستر بحيطانه، فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لنعرف المعصية) ؛ فإنه هو التجسس المنهي عنه .

قال مجاهد: "لا تجسسوا"، يعني: خذوا ما ظهر لكم، ودعوا ما ستر الله. رواه عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، (إلا أن يظهر في الدار ظهورا يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت، بحيث جاوز ذلك حيطان الدار، فمن سمع ذلك فله الدخول في الدار وكسرها) ، أي: المزامير والأوتار، (وكذلك إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم، بحيث يسمعها أهل الشوارع) ، أي: الطرق المسلوكة، (فهذا إظهار موجب للحسبة، فإذا إنما يدرك مع تخلل الحيطان صوت أو رائحة، فإذا فاحت رائحة الخمر فإن احتمل أن يكون ذلك من الخمور المحترمة فلا يقصد بالإراقة، وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت لتعاطيهم الشرب، فهذا محتمل، والظاهر جواز الحسبة، وقد تستر قارورة الخمر) ، وفي بعض النسخ: أواني الخمر وظروفه (في الكم، وتحت الذيل، وكذلك الملاهي) أي: آلاتها (فإذا رئي فاسق وتحت ذيله شيء فلا يجوز أن يكشف عنه ما لم يظهر بعلامة خاصة) تدل عليه، (فإن فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر؛ إذ الفاسق محتاج إلى الخل وغيره، فلا يجوز أن يستدل بإخفائه، وأنه لو كان حلالا) وفي نسخة خلا (لما أخفاه؛ لأن الأغراض في الإخفاء مما تكثر) وتختلف، (وإن كانت الرائحة فائحة، فهذا محل النظر، والظاهر أن له الاحتساب؛ لأن هذه علامة تفيد الظن، والظن كالعلم في أمثال هذه الأمور) فوجوده كاف، و (كذلك العود) المطرب (ربما يعرف بشكله) ؛ فإنه غريب في الآلات (إذا كان الثوب الساتر له رقيقا) شفافا، (فدلالة الشكل كدلالة الرائحة والصوت، وما ظهرت دلالته فهو غير مستور، بل هو مكشوف، وقد أمرنا بأن نستر ما ستره الله، وننكر [ ص: 36 ] على ما أبدى لنا صفحته) . رواه البخاري من قول عمر رضي الله عنه .

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي شيبة وأبو داود وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود برجل، فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به (والإبداء له درجات، فتارة يبدو لنا بحاسة السمع، وتارة بحاسة البصر، وتارة بحاسة اللمس، ولا يمكن تخصيص ذلك بحاسة البصر، بل المراد العلم، وهذه الحواس أيضا تفيد العلم) إفادة البصر إياه، (فإذا إنما يجوز أن يكسر ما تحت الثوب إذا علم أنه خمر، وليس له أن يقول: أرني لأعلم ما فيه؛ فإن هذا تجسس) وهو منهي عنه، (ومعنى التجسس طلب الأمارات المعرفة) عنه (فالأمارة المعرفة إن حصلت وأورثت المعرفة، جاز العمل بمقتضاها، فأما طلب الأمارة المعرفة فلا رخصة فيه أصلا) ؛ إذ هو داخل في معنى التجسس .




الخدمات العلمية