الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى ، وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل ، وهو الكفر والظلم ، بأن يقول : لعنة الله على الظالمين وعلى ، الكافرين ، وينبغي أن يتبع فيه لفظ الشرع ، فإن في اللعنة خطرا ؛ لأنه حكم على الله عز وجل بأنه قد أبعد الملعون وذلك غيب ، لا يطلع عليه غير الله تعالى ، ويطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ، أطلعه الله عليه .

والصفات المقتضية للعن ثلاثة الكفر والبدعة والفسق وللعن في كل واحدة ثلاث مراتب .

; الأولى اللعن بالوصف الأعم كقولك : لعنة الله على الكافرين والمبتدعين والفسقة .

، الثانية: اللعن بأوصاف أخص منه كقولك : لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس وعلى القدرية والخوارج والروافض أو على الزناة والظلمة وآكلي الربا وكل ذلك جائز ولكن في لعن أوصاف المبتدعة خطر ; لأن معرفة البدعة غامضة ولم يرد فيه لفظ مأثور ، فينبغي أن يمنع منه العوام ; لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله ، ويثير نزاعا بين الناس وفسادا .

الثالثة اللعن للشخص المعين ، وهذا فيه خطر ، كقولك : زيد لعنه الله ، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع والتفصيل .

فيه أن كل شخص ثبتت لعنته شرعا فتجوز لعنته ، كقولك : فرعون لعنه الله ، وأبو جهل لعنه الله ; لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر ، وعرف ذلك شرعا وأما شخص بعينه في زماننا ، كقولك : زيد لعنه الله ، وهو يهودي مثلا ، فهذا فيه خطر ; فإنه ربما يسلم فيموت مقربا عند الله ، فكيف يحكم بكونه ملعونا .

فإن قلت : يلعن لكونه كافرا في الحال كما يقال للمسلم : رحمه الله ، لكونه مسلما في الحال ، وإن كان يتصور أن يرتد فاعلم أن معنى قولنا رحمه الله ، أي : ثبته الله على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى ، الطاعة ولا يمكن أن يقال : ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة فإن هذا سؤال للكفر ، وهو في نفسه كفر بل الجائز أن يقال : لعنه الله إن مات على الكفر ، ولا لعنه الله إن مات على الإسلام ، وذلك غيب لا يدرى والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر ، وليس في ترك اللعن خطر وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق أو زيد المبتدع أولى ، فلعن الأعيان فيه خطر ; لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلا من أعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر ، ولذلك عين قوما باللعن ، فكان يقول في دعائه على قريش : اللهم عليك بأبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة . وذكر جماعة قتلوا على الكفر حتى إن من لم يعلم عاقبته كان يلعنه فنهى عنه ; إذ روي أنه كان يلعن الذين قتلوا أصحاب بئر معونة في قنوته شهرا ، فنزل قوله تعالى : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون .

يعني أنهم ربما يسلمون ، فمن أين تعلم أنهم ملعونون
.

التالي السابق


( واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى ، وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده عن الله تعالى، وهو الكفر والظلم، بأن يقول: لعنة الله على الظالمين، و) لعنة الله (على الكافرين، وينبغي أن يتبع فيه لفظ الشرع، فإن في اللعنة خطرا؛ لأنه حكم على الله عز وجل بأنه قد أبعد الملعون) عن حضرته، وطرده عن عموم رحمته، (وذلك) أمر (غيب، لا يطلع عليه غير الله تعالى، ويطلع عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، لو أطلعه الله عليه، والصفات المقتضية للعن ثلاثة ) أعظمها (الكفر) وهو الشرك بالله تعالى، (والبدعة) التي تضاد السنة المشروعة، (والفسق) وهو الخروج عن طاعة الله ورسوله بالظلم، وغيره من المعاصي، (وللعن في كل واحدة) من هؤلاء الثلاثة (ثلاث مراتب; الأولى اللعن بالوصف الأعم) ، وذلك مأذون فيه، (كقولك: لعنة الله على الكافرين) بالنظر إلى الكفر، (و) لعنة الله (على المبتدعين) بالنظر إلى البدعة، (و) لعنة الله (على الفسقة) بالنظر إلى الفسق، (الثانية اللعن بأوصاف) هي (أخص منه) أي: من الوصف الأعم، (كقوله: لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس) بالنظر إلى الكفر (و) لعنة الله (على القدرية ) وهم المعتزلة ( والخوارج ) وهم فرق شتى ( والروافض ) وهم كذلك فرق شتى، وهذا بالنظر إلى البدعة، (و) لعنة الله (على الزناة) من النساء والرجال، (والظلمة وآكلي الربا) ، وهذا بالنظر إلى الفسق، (وكل ذلك جائز مأذون) فيه، (ولكن في لعن أصناف المبتدعة خطر; لأن معرفة البدعة) أمر (غامض) خفي، (ولم يرد فيه لفظ مأثور، فينبغي أن يمنع منه العوام من الناس; لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله، ويثير) أي: يحرك (نزاعا بين الناس) ، فتنشأ من ذلك مفاسد عظيمة، (الثالثة اللعن للشخص المعين، وهذا فيه خطر، كقولك: زيد لعنه الله، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع) ، وهذا قد اختلف فيه; (والتفصيل) الرافع للنزاع (فيه أن كل شخص ثبتت لعنته شرعا) إما في الكتاب أو في السنة، (فتجوز لعنته، كقولك: فرعون لعنه الله، وأبو جهل لعنه الله; لأنه قد ثبت أن هؤلاء قد ماتوا على الكفر، وعرف ذلك شرعا) ، ولو قال بدل فرعون : أبو لهب ، لكان أولى; إذ قد اختلف في إيمان فرعون ، فأثبته بعض المحققين، ونفاه آخرون، كما تقدم الكلام فيه [ ص: 486 ] فيما سبق، وأما أبو لهب ، وأبو جهل فمتفق على كفرهما وموتهما على الكفر، (أما شخص بعينه في زماننا، كقولك: زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلا، فهذا فيه خطر; فإنه ربما يسلم فيموت مقربا عند الله تعالى، فكيف يحكم بكونه ملعونا) قال ابن حجر المكي : وهذا هو الأليق بقواعد أئمتنا؛ فإنهم صرحوا بأنه لا يجوز لعن شخص بخصوصه ; إلا إن علم موته على الكفر، كأبي جهل ، وأبي لهب ، وأما من لم يعلم منه ذلك، فلا يجوز لعنه، (فإن قلت: يلعن لكونه كافرا في الحال) أي: في حال اللعن، (كما يقال للمسلم: رحمه الله، لكونه مسلما في الحال، وإن كان يتصور فيه أن يرتد) عن دين الإسلام إلى دين الكفر، (فاعلم أن معنى قولنا) للمسلم (رحمه الله، أي: ثبته على الإسلام الذي هو سبب الرحمة، و) ثبته (على الطاعة) والانقياد لأوامر الله تعالى، فهو دعاء له بذلك، (ولا يمكن أن يقال: ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة) والطرد؛ (فإن هذا سؤال للكفر، وهو في نفسه كفر) ; إذ من يسأل الكفر لغيره كأنه يرضى له بذلك، والرضا بالكفر كفر، (بل الجائز أن يقال: لعنه الله إن مات على الكفر، ولا لعنه الله إن مات على الإسلام، وذلك غيب لا يدرى) ، ولا يدرك، (والمطلق متردد بين الجهتين) إما جهة الكفر، أو جهة الإسلام، (ففيه خطر، وليس في ترك اللعن خطر) ، فهو الأسلم، (وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق أو زيد المبتدع أولى، فلعن الأعيان فيه خطر; لأن الأعيان تنقلب في الأحوال) .

قال ابن حجر المكي : الكافر المعين لا يجوز لعنه; لأنه هو الطرد عن رحمة الله تعالى، المستلزم لليأس منها، وذلك إنما يليق بمن علم موته على الكفر فقط، وإن كان كافرا في الحالة الظاهرة لاحتمال أن يختم له بالحسنى، فيموت على الإسلام، ولا يجوز أيضا لعن فاسق مسلم معين، ثم نقل عن ابن الصلاح ما يشهد لهذا (إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر، ولذلك عين قوما باللعن، فكان يقول في دعائه على قريش : اللهم عليك بأبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة . وذكر جماعة قتلوا على الكفر ببدر ) ، كما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود ، (حتى إن من لم تعلم عاقبته كان يلعنه) ويدعو عليه، (فنهى عنه; إذ روي أنه) صلى الله عليه وسلم ( كان يلعن الذين قتلوا أصحاب بئر معونة في قنوته شهرا، فنزل قوله تعالى: ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، يعني أنهم ربما يسلمون، فمن أين تعلم أنهم ملعونون ) قال العراقي : روى الشيخان من حديث أنس : "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا" . الحديث، وفي رواية لهما: "قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان " ، الحديث، ولهما من حديث أبي هريرة : كان يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه، الحديث، وفيه: "اللهم العن لحيان ورعلا " . الحديث، وفيه: "ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله: ليس لك من الأمر شيء . لفظ مسلم . اهـ .

قلت: وروى الشيخان وأحمد والترمذي والنسائي وابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل من حديث أنس : أن هذه الآية نزلت يوم أحد لما كسرت رباعيته، وشج وجهه ، وعند ابن جرير في روايته عن الربيع في آخره: فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم .

وروى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي ، وابن جرير والبيهقي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : "اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية . فنزلت هذه الآية، قال: فتيب عليهم كلهم" .

وروى الترمذي وصححه، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله هذه الآية، فهداهم للإسلام" .

وروى الشيخان وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والبيهقي في السنن من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، يجهر بذلك" ، وكان يقول في بعض صلاة الفجر: "اللهم العن فلانا وفلانا. لأحياء من أحياء العرب، حتى أنزل الله هذه الآية" ، وفي لفظ: "اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية ، عصت الله ورسوله، بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت هذه الآية" .

وروى ابن إسحاق في سيرته [ ص: 487 ] والنحاس في ناسخه من حديث سالم بن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنك تنهى عن الشيء ثم تحول. فحول قفاه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكشف استه، فلعنه ودعا عليه، فأنزل الله هذه الآية، قال: ثم أسلم الرجل وحسن إسلامه" .




الخدمات العلمية