الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم لا يجفو على أحد يقبل معذرة المعتذر إليه يمزح ولا يقول إلا حقا يضحك من غير قهقهة يرى اللعب المباح فلا ينكره يسابق أهله وترفع الأصوات عليه فيصبر وكان له لقاح وغنم يتقوت هو وأهله من ألبانها .

التالي السابق


(ويجالس الفقراء) روى أبو داود من حديث أبي سعيد "جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين ، إن بعضهم ليستتر ببعض من العري ، وفيه : فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسطنا ليعدل بنفسه فينا"، الحديث ، ولابن ماجه من حديث خباب ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس معنا ، الحديث في نزول قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية ، وإسنادهما حسن .

(ويؤاكل المساكين) روى البخاري من حديث أبي هريرة قال: " وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون إلى أهل ولا مال ، ولا على أحد ، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ، ولم يتناول منها ، فإذا أتته هدية أرسل إليهم ، وأصاب منها وأشركهم فيها .

(ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم) ، روى الترمذي في الشمائل من حديث علي الطويل في صفته -صلى الله عليه وسلم- وكان من سيرته إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، وفيه: "ويؤلفهم ، ولا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ، ويوليه عليهم"، الحديث ، وللطبراني من حديث جرير في قصة إسلامه ، فألقى إلي كساء ، ثم أقبل على أصحابه ، ثم قال: " إذا أتاكم كريم فأكرموه "، ورواه الحاكم من حديث معبد بن خالد الأنصاري نحوه ، وقال صحيح الإسناد (ويصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم) روى الحاكم من حديث ابن عباس "كان يجل العباس إجلال الوالد والوالدة"، وله من حديث سعد بن أبي وقاص أنه أخرج عمه العباس وغيره من المسجد ، فقال له العباس تخرجنا ونحن عصبتك وعمومتك ، وتسكن عليا ، فقال "ما أنا أخرجكم وأسكنه ولكن الله عز وجل [ ص: 105 ] أخرجكم وأسكنه" ، قال في الأول صحيح الإسناد وسكت في الثاني وفيه مسلم الملائي وهو ضعيف .

قال العراقي : فآثر عليا لفضله بتقدم إسلامه وشهود بدرا، والله أعلم .

قلت: ووجدت بخط الحافظ ابن حجر ما نصه في مسند أحمد ما يدل على أن بقاء باب علي لكونه لم يكن له باب غيره اهـ .

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد "لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر " .

(لا يجفو على أحد) روى أبو داود والترمذي في الشمائل ، والنسائي في اليوم والليلة من حديث أنس "قلما يواجه رجلا بشيء يكرهه"، وفيه ضعف ، وللشيخين من حديث أبي هريرة :" أن رجلا استأذن عليه وسلم ، فقال: بئس أخو العشيرة ، فلما دخل ألان له الحديث".

(ويقبل معذرة المتعذر إليه) متفق عليه من حديث كعب بن مالك، في قصة الثلاثة الذين خلفوا، وفيه طفق المخلفون يعتذرون إليه ، فقبل منهم علانيتهم ، الحديث .

(يمزح) أحيانا (ولا يقول إلا حقا) ، رواه أحمد من حديث أبي هريرة ، وهو عند الترمذي بلفظ: قالوا: " إنك تداعبنا ، قال : إني لا أقول إلا حقا"، وقال حسن ، قاله العراقي .

اعلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان مع أصحابه وأهله ، وغيرهم على غاية من سعة الصدر ، ودوام البشر ، وحسن الخلق حتى يظن كل من أصحابه أنه أحبهم إليه ، وهذا ميدان ليس فيه إلا واجب أو مستحب ، ولو لم يكن من مباسطته لهم إلا الاستضاءة بنور هدايته، والاقتداء به في ذلك، وتألفهم، حتى يزول ما عندهم من هيبته فيقدرون على الاجتماع به، والأخذ عنه، كان ذلك هو الغاية العظمى في الكمال .

والحاصل: أن المداعبة لا تنافي الكمال، بل هي من توابعه، ومتمماته، إذا كانت جارية على القانون الشرعي بأن يكون على وفق الصدق، والحق ويقصد تألف قلوب الضعفاء، وجبرهم وإدخال السرور والرفق عليهم، والمنهي عنه من المزاح إنما هو الإفراط فيه، والدوام عليه; لأنه يورث كثرة الضحك، وقسوة القلب، والإعراض عن ذكر الله تعالى، وعن التفكر في مهمات الدين، بل ربما يؤول كثيرا إلى إيذاء وحقد وسقوط المهابة والوقار، ومزاحه ـ صلى الله عليه وسلم- سالم من جميع هذه الأمور، يقع منه على جهة الندرة لمصلحة تامة من مؤانسته بعض أصحابه، فهو بهذا القصد سنة، وما قال بعضهم إلا ظهر أنه مباح لا غير ، فضعيف إذ الأصل في أفعاله ـ صلى الله عليه وسلم- وجوب أو ندب للتأسي به فيها إلا لدليل يمنع من ذلك، ولا دليل هنا يمنع منه ، فتعين الندب كما هو مقتضى كلام الفقهاء والأصوليين، هذا وقد ألقى الله سبحانه عليه المهابة، ولم يؤثر فيه مزاحه، ولا مداعبته، فقد قام رجل بين يديه، فأخذته رعدة شديدة، ومهابة، فقال: "هون عليك، فإني لست بملك، ولا جبار، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة، فنطق الرجل بحاجته"، وروى مسلم من حديث عمرو بن العاص، "صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ملأت عيني منه قط حياء، وتعظيما له ، ولو قيل لي: صفه لما قدرت "، فإذا كان هذا حاله، وهو من أجلاء أصحابه، فما ظنك بغيره، ومن ثم لولا مزيد تألفه، ومباسطته لهم لما قدر أحد منهم أن يجتمع به هيبة وخوفا منه ، سيما عقب ما كان يتجلى عليه من مواهب القرب، وعوائد الفضل، لكن كان لا يخرج إليهم بعد ركعتي الفجر، إلا بعد الكلام مع عائشة، أو الاضطجاع بالأرض، إذ لو خرج إليهم على حالته التي تجلى بها من القرب في مناجاته، وسماع كلام ربه، وغير ذلك مما يكل اللسان عن وصف بعضه لما استطاع بشر أن يلقاه، فكان يتحدث معها، أو يضطجع بالأرض، ليستأنس بجنسه، أو بجنس أصل خلقه، وهي الأرض، ثم يخرج إليهم بحالة يقدرون على مشاهدتها; رفقا بهم ورحمة لهم .

(يضحك من غير قهقهة) ، روى الشيخان من حديث عائشة : "ما رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- قط مستجمعا ضاحكا، حتى أرى لهواته، إنما كان يبتسم"، وللترمذي من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء : "ما كان ضحك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- إلا تبسما" ، وقال صحيح غريب، ولفظه في الشمائل: "لا يضحك إلا تبسما"، وله في الشمائل أيضا من حديث هند بن أبي هالة "جل ضحكه التبسم" ،وقوله: إلا تبسما جعله من الضحك مجازا إذ هو مبدؤه فهو كجعل السنة من النوم ، ومعنى قوله: فتبسم ضاحكا من قولها أي شارعا في الضحك، إذ هو انبساط الوجه، حتى تظهر الأسنان من السرور ، ثم إن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعيد فهو القهقهة، وإلا فالضحك وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وروى الترمذي في الشمائل [ ص: 106 ] من حديث أبي ذر، في حديث ساقه، وفيه: "ضحك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه" ، قيل: المراد منه المبالغة في كونه ضحك فوق ما كان يصدر عنه، وفيه دليل على أن الضحك في مواطن التعجب لا يكره، ولا يخرم المروءة، إذا لم يجاوز به الحد المعتاد، ولا ينافي هذا ما مر من حديث عائشة ; لأنها إنما نفت رؤيتها، وأبو ذر أخبر بما شاهده. والمثبت مقدم على النافي .

والحاصل من مجموع الأحاديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في أغلب أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك، فضحك ، والمكروه من ذلك الإكثار منه أو الإفراط فيه; لأنه يذهب الوقار .

(يرى اللعب المباح فلا ينكره) روى الشيخان من حديث عائشة في لعب الحبشة بين يديه في المسجد، وقال لهم: "دونكم يا بني أرفدة" وقد تقدم في كتاب السماع .

(ويسابق أهله) رواه أبو داود ،والنسائي في الكبرى، وابن ماجه من حديث عائشة في الباب الثالث من كتاب النكاح .

(ترفع الأصوات عليه) هكذا في النسخ ، وعند العراقي : عنده (فيصبر) قال العراقي : روى البخاري من حديث عبد الله بن الزبير، "قدم ركب من بني تميم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي فقال عمر : ما أردت خلافك ،فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ". اهـ

قلت: وكذلك رواه ابن المنذر وابن مردويه، وروى البخاري، وابن المنذر أيضا، والطبراني عن ابن أبي مليكة، قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم- حين قدم عليه ركب من بني تميم ، فساقه، وأخرجه الترمذي من هذا الطريق، قال: وحدثني عبد الله بن الزبير به، وأخرج ابن جرير مثله .

(وكان له لقاح وغنم يتقوت هو وأهله من ألبانها) ، روى محمد بن سعد ، كاتب الواقدي في الطبقات من حديث أم سلمة، "كان عيشنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- اللبن، أو قالت أكثر عيشنا وكانت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- لقاح بالغابة" ، الحديث ، وفي رواية له: "كانت لنا أعنز سبع، فكان الراعي يبلغ بهن مرة الجمد ، ومرة أحدا، ويروح بهن علينا، وكانت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- لقاح بذي الجدر ، فيثوب إلينا ألبانها بالليل"، الحديث، وفي إسنادهما محمد بن عمر الواقدي ضعيف في الحديث .

وفي الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع : "كانت لقاح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- ترعى بذي قرد" الحديث، ولأبي داود من حديث لقيط بن صبرة، " لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد فإذا ولد للراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة" الحديث .




الخدمات العلمية