الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما ما له فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها ، فله أن ينكر ذلك فيقول : ما زنيت وما سرقت. وقال صلى . الله عليه وسلم : من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله .

وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلما وعرضه بلسانه ، وإن كان كاذبا .

وأما عرض غيره فبأن يسأله عن سر أخيه ، فله أن ينكره وأن يصلح بين اثنين وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه ، فيعدها في الحال تطييبا لقلبها أو يعتذر إلى إنسان ، وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب ، وزيادة تودد فلا بأس به ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور ، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ، ويزن بالميزان القسط فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعا في الشرع من الكذب ، فله الكذب وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق وقد يتقابل الأمران ، بحيث يتردد فيهما وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى ; لأن الكذب يباح ؛ لضرورة ، أو حاجة مهمة فإن شك في كون الحاجة مهمة ، فالأصل التحريم فيرجع إليه ، ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب فأما إذا تعلق بغرض غيره ، فلا تجوز المسامحة لحق الغير ، والإضرار به وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ثم هو لزيادات المال والجاه ولأمور ليس فواتها محذورا حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات وذلك حرام وقالت ، أسماء: سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل أضارها بذلك فهل علي شيء فيه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور .

التالي السابق


(أما ما له فمثل أن يأخذه ظالم) فيعذبه ويهدده، (ويسأله عن ماله) أين وضعه، (فله أن ينكره) ، ويقول: لا أدري، وليس عندي مال، (أو يأخذه السلطان ويسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها، فله أن ينكر ويقول: ما زنيت ولا شربت. قال رسول الله صلى عليه وسلم: من ارتكب شيئا من هذه القاذورات) جمع قاذورة، وهي كل قول أو فعل يستفحش ويستقبح، وقيل: المراد هنا الفاحشة، يعني لأن سبب الحديث أنه ذكره لما رجم ماعزا ، سميت قاذورة لأن حقها أن تتقذر، فوصفت بما يوصف به صاحبها، (فليستتر بستر الله) أي: لا يخبر بذلك الناس، وفي معناه قول العامة: إذا بليتم فاستتروا. قال العراقي : رواه الحاكم من حديث ابن عمر : "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله" . وإسناده جيد. اهـ .

قلت: وتمامه: وليتب إلى الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله . قال الحاكم : على شرطهما، وتعقبه الذهبي فقال: غريب جدا، لكنه قال في المهذب: إسناده جيد، وصححه ابن السكن ، وذكره الدارقطني في العلل، وصحح إرساله، وقول ابن عبد البر : لا نعلمه بوجه من الوجوه؛ قال الحافظ ابن حجر : مراده من حديث مالك ، ولما ذكر إمام الحرمين هذا الحديث في النهاية قال: صحيح، متفق على صحته، فتعجب منه ابن الصلاح وقال: أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم. (وذلك لأن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى) ، بل أعظم من الأولى، (فللرجل أن يحفظ دمه) عن السفك، (وماله) عن السلب (الذي يؤخذ ظلما) ، وعدوانا (وعرضه) عن الهتك (بلسانه، وإن كان كاذبا) في قوله، (وأما عرض غيره فبأن يسأل عن سر أخيه، فله أن ينكره) ، ولا يقر، ولا يفشيه، (و) له (أن يصلح بين اثنين) متخاصمين، (وأن يصلح بين الضرات من نسائه) جمع الضرة على القياس، وهي امرأة زوجها، ويجمع أيضا على الضرائر، مثل كريمة وكرائم، ولا يكاد يوجد لها نظير (بأن يظهر لكل واحدة) منهن (أنها أحب) النساء (إليه) لتسكن بذلك، (أو كانت امرأته لا تطيعه إلا بوعد بما لا يقدر عليه، فيعدها في الحال تطييبا لقلبها) ، وجبرا لخاطرها، (أو يعتذر إلى إنسان، وكان) ممن (لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب، وزيادة تودد) مع وجود ذنب وقلة ود، (فلا بأس به) أي: يباح له ذلك، (ولكن الحد فيه أن الكذب محذور، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر، ويزن بالميزان القسط) أي: العدل، (فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعا في الشرع) بأن يترتب عليه اختلال شيء من أموره الظاهرة، وأعظم تأثيرا (من الكذب، فله الكذب) حينئذ، (وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق) ؛ مراعاة للأصل، ويلغى النظر إلى ذلك المقصود، (وقد يتقابل الأمر، بحيث يتردد فيه) أي: يستوي طرفاه، ولا بد من الترجيح، (وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى; لأن الكذب) من أصله قبيح، وإنما قلنا: إنه (مباح؛ لضرورة دعت، أو حاجة [ ص: 526 ] مهمة) ألمت، (فإذا شك في كون الحاجة مهمة، فالأصل التحريم) فيه، (فيرجع إليه، ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد) ، وخفائه، فإنه يختلف باختلاف الذوات وتفاوت الأوقات والحالات، ( فينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ) ; لأن الصدق أنجى، والخلاص فيه أرجى، (ولذلك) قالوا: (مهما كانت الحاجة له) ، أي: لنفسه خاصة، (فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب) ، ويختار الصدق، (وأما إذا تعلق بغرض غيره، فلا يجوز المسامحة بحق الغير، والإضرار به) ; لأن حقه آكد، والمراعاة فيه مطلوبة، والإضرار حرام، (وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم) ، أي: لأجل تحصيلها لها من حيث كانت، (ثم هو لزيادات المال والجاه) ، وتكثير الحشم والخدم والتبسط في أمور الدنيا، (ولأمور) أخر (ليس فواتها محذورا) شرعيا، (حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تتفاخر به وتكذب) في تعبيرها (لأجل مراغمة الضرات) وكسر قلبهن، (وذلك حرام، قالت أسماء) بنت أبي بكر الصديق زوجة الزبير رضي الله عنهم، وأمها قتيلة بنت عبد العزى ، من بني عامر بن لؤي ، أسلمت قديما بمكة ، قال ابن إسحاق : بعد سبعة عشر نفسا، وهاجرت وهي حامل من الزبير بولده عبد الله، فوضعته بقباء ، وعاشت إلى أن ولي ابنها الخلافة، ثم إلى أن قتل، وماتت بعده بقليل، وكانت تلقب ذات النطاقين ، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، وهي في الصحيحين في السنن، روى عنها ابناها عبد الله وعروة ، وأحفادها عبادة بن عبد الله وعبد الله بن عروة ، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير ، وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير ، ومولاها عبد الله بن كيسان ، وابن عباس ، وصفية بنت شيبة وابن أبي مليكة ، ووهب بن كيسان ، وغيرهم، وقد بلغت مئة سنة لم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل: (سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إن لي ضرة) ، وهي امرأة زوجها، (وإني أتكثر من زوجي بما لا يفعل) فأقول: أعطاني وكساني كذا، وهو كذب، (أضارها بذلك) أي: أطلب مضرتها، والمضارة تكون من الجانبين، (فهل علي فيه شيء؟ فقال: المتشبع) "متفعل" من الشبع، وصيغة التفعل للتكلف، ومعناه: المتكلف الإسراف في الأكل، وزيادة على الشبع، أو المراد: المتشبه بالشبعان، وليس به (بما لم يعط) ، وفي رواية للعسكري : "بما لم ينل"، وكلاهما بالبناء للمجهول، (كلابس ثوبي زور) ، أي: ذي زور، وهو من يزور على الناس، فيلبس لباس ذوي التقشف، وليس هو بذاك، وأضاف الثوبين إلى الزور; لأنهما لبسا لأجله، وثني باعتبار الرداء والإزار، يعني أن المتحلي بما ليس له، كمن لبس ثوبين من الزور، وارتدى بأحدهما واتزر بالآخر، وقيل: المراد بثوبي زور من يصل بكميه كمين ليرى أنه لابس قميصين، أو من يلبس ثوبين لغيره، موهما أنهما له، وكيفما كان فيتحصل منه أن تشبه المرأة على ضرتها بما لم يعطها زوجها حرام، وهذا من بديع التشبيه وبليغه، قال العراقي : متفق عليه من حديث أسماء . اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد وأبو داود ، ورواه مسلم أيضا من حديث عائشة بهذه القصة، ورواه العسكري في الأمثال من طريق ابن جريج عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة مرفوعا، وفي الباب سفيان بن الحكم الثقفي وجابر .




الخدمات العلمية