الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
نعم المعاريض تباح لغرض خفيف ، كتطييب قلب الغير بالمزاح ، كقوله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة عجوز. وقوله للأخرى الذي في عين زوجك بياض وللأخرى نحملك على ولد البعير وما أشبهه .

وأما ! الكذب الصريح كما فعله نعيمان الأنصاري مع عثمان في قصة الضرير إذ قال له : إنه نعيمان وكما يعتاده الناس من ملاعبة الحمقى بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك فإن كان فيه ضرر يؤدي إلى إيذاء قلب؛ فهو حرام، وإن لم يكن إلا لمطايبته فلا يوصف صاحبها بالفسق ولكن ، ينقص ذلك من درجة إيمانه .

قال صلى الله عليه وسلم : لا يكمل للمرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وحتى يجتنب الكذب في مزاحه .

وأما قوله عليه السلام : إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها الناس يهوي بها في النار أبعد من الثريا .

أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح .

ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله طلبتك كذا وكذا مرة وقلت : لك كذا مائة ، مرة فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها ، بل تفهيم المبالغة فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لا ، يأثم ، وإن لم تبلغ مائة وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب .

التالي السابق


(نعم المعاريض تباح بغرض خفيف، كتطييب قلب الغير بالمزاح ، كقوله صلى الله عليه وسلم: لا تدخل العجوز الجنة ) ، وقد تقدم قريبا، (و) كقوله: ( في عين زوجك بياض ) قاله لأم أيمن ، وقد تقدم أيضا، (و) كقوله: ( نحملك على ولد البعير ) ، قاله لامرأة جاءته تستحمله، وقد تقدم أيضا، (وما أشبهه! فأما الكذب الصريح كما فعله نعيمان) بن عمرو (الأنصاري) رضي الله عنه (مع عثمان) بن عفان رضي الله عنه (في قصة الضرير) يعني به مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري، وهو أبو المسور رضي الله عنهما، قال الواقدي : وكان قد بلغ مئة وخمس عشرة سنة، وكان قد عمي (إذ قال له: إنه نعيمان ) فضربه حتى شجه في وجهه، وكان يصلي، وهذه القصة ذكرها الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، قال: حدثني عمي عن جدي قال: كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مئة وخمس عشرة سنة، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به الناس: المسجد المسجد. فأخذ نعيمان بن عمرو بيده، فنحى به، ثم أجلسه في ناحية أخرى من المسجد، فقال له: بل هنا. قال: فصاح به الناس، فقال: ويحكم، فمن أتى بي إلى هذا الموضع؟ فقال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت. فبلغ ذلك نعيمان ، فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يوما وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد، فقال لمخرمة : هل لك في نعيمان ؟ قال: نعم. فأخذ بيده حتى أوقفه على عثمان ، وكان إذا صلى لا يلتفت، فقال: دونك هذا نعيمان . فجمع يديه بعصاه فضرب عثمان ، فشجه، فصاحوا به، ضربت أمير المؤمنين.. فذكر بقية القصة .

(وكما يعتاده الناس من ملاعبة الحمقى) الذين نقص جوهر عقولهم (بتغريرهم) أي: بإيقاعهم في الغرور، والغفلة (بأن امرأة قد رغبت في تزويجك) ، ويصورون لهم كلاما يصدقونه، (فإن كان فيه ضرر) ظاهر، (ويؤدي إلى إيذاء قلب) مسلم ، (فهو حرام) ، لا يجوز ارتكابه، (وإن لم يكن إلا مطايبة) بلين كلام، (فلا يوصف صاحبها بالفسق، ولكنه ينقص من درجة إيمانه) العليا، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يستكمل المؤمن إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يجتنب الكذب في مزاحه ) ، قال العراقي : ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب من حديث أبي مليكة الذماري ، وقال: فيه نظر، وللشيخين من حديث أنس : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ، وللدارقطني في المؤتلف والمختلف من حديث أبي هريرة : "لا يؤمن عبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في مزاحه" . قال أحمد بن حنبل : منكر. اهـ .

قلت: ذكره البخاري في الكنى، وأورد له هذا الحديث من طريق راشد بن سعد عنه، ورواه أبو نعيم في المعرفة بلفظ: "وحتى يخاف الله في مزاحه وكذبه" . وحديث أبي هريرة رواه أيضا أحمد والطبراني في الأوسط بلفظ: "حتى يترك الكذب في المزاحة، ويترك المراء، وإن كان صادقا" ، وقال ابن أبي الدنيا في الصمت: حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا شعبة عن الحكم ، قال ابن عمر : "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محق، والكذب في المزاح" ، ورواه أبو يعلى من حديث عمر ، وقد تقدم الكلام عليه في آفة المراء .

(وأما قوله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها الناس يهوي بها أبعد من الثريا ) تقدم في الآفة الثالثة مع نظائره، (أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح) ، وقد تقدمت الإشارة إليه آنفا، (ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق) أي: ومن جنس الكذب الملحق به، ولا يوجب الفسق بسببه، (ما جرت العادة في المبالغة) في العدد، (كقوله: قلت لك كذا مئة مرة، وطلبتك مئة مرة) ، وقد يزاد في المبالغة، فيقال: خمسمئة مرة، أو ألف مرة؛ (فإنه لا يراد به تفهيم المرات بعددها، بل تفهيم المبالغة) ، بأن وقع منه ذلك الفعل مرات، (فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا) في قوله، وكذا في العشرة، (وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة، فلا يأثم، وإن لم يبلغ مئة) أو أكثر، (وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب) ، أي: خطر الوقوع فيه، وكذا الاستعارة مرتبة من هذا القسم من الكذب في المبالغة، ولكنها ليست بكذب، فإن علماء البيان قد حققوا ذلك بالبرهان، وقالوا: [ ص: 531 ] الاستعارة تفارق الكذب من وجهين; أحدهما البناء على التأويل، وثانيهما نصب الدليل من القرينة على إرادة خلاف الظاهر، نحو: رأيت أسدا في الحمام، ولكن عليك الاحتياط في مثل هذا الكلام .




الخدمات العلمية