الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن يستريب في انخراق العادة على يده ويزعم أن آحاد هذه الوقائع لم تنقل تواترا بل ، المتواتر هو القرآن فقط ، كمن يستريب في شجاعة علي رضي الله عنه وسخاوة حاتم الطائي ، ومعلوم أن آحاد وقائعهم غير متواترة ولكن مجموع الوقائع يورث علما ضروريا ثم لا يتمارى في تواتر القرآن وهي المعجزة الكبرى الباقية بين الخلق وليس لنبي معجزة باقية سواه صلى الله عليه وسلم إذ تحدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغاء الخلق وفصحاء العرب ، وجزيرة العرب حينئذ مملوءة بآلاف منهم والفصاحة صنعتهم وبها منافستهم ومباهاتهم .

وكان ينادي بين أظهرهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله إن شكوا فيه، وقال لهم: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وقال ذلك تعجيزا لهم فعجزوا عن ذلك وصرفوا عنه حتى عرضوا أنفسهم للقتل ونساءهم وذراريهم للسبي وما استطاعوا أن يعارضوا ولا أن يقدحوا في جزالته وحسنه .

التالي السابق


(ومن يستريب في انخراق العادات على يده) -صلى الله عليه وسلم- (ويزعم أن آحاد هذه الوقائع) ظنية (لم ينقل تواترا، وإنما المتواتر هو القرآن، كمن يستريب في شجاعة علي) رضي الله عنه (وسخاوة حاتم ، ومعلوم أن آحاد وقائعهم غير متواترة ولكن مجموع) تلك (الوقائع) سواء مما وقع التحدي به أو وقع دالا على صدقه من غير تحد فإنه (يورث علما ضروريا) ويفيد قطعا بأنه ظهر على يديه -صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شيء كثير مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر ورواه العدد الكثير والجم والغفير ، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم بذلك ، فلو ادعى مدع أن غالب هذه الوقائع يفيد القطع النظري لما كان مستبعدا ، وذلك لأنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة .

ولا يحفظ عن أحد من أصحابه مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك ولا إنكار عليه فيما هنالك ، فيكون الساكت منهم كالناطق لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء على الباطل ، وعلى تقدير أنه يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئا من ذلك ، فإنما هو جهة توقف في صدق أو تهمته بكذب أو توقف في ضبطه أو نسبة إلى سوء الحفظ أو جواز الغلط ، ولا يوجد أحد منهم طعن في المروي كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام وحروف القرآن ونحو ذلك. والله أعلم .

(ثم لا يتمارى في تواتر القرآن وهو المعجزة الكبرى الباقية بين الخلق وليس لنبي معجزة باقية سواه -صلى الله عليه وسلم-)

اعلم أن وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر ، ولكن قرر فيه بعضهم على ستة أوجه:

أحدها: أن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة مثل قوله: ولكم في القصاص حياة فجمع في كلمتين عدد حروفهما عشرة أحرف معاني كلام كثير ، وحكى أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فاصدع بما تؤمر فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام ، وسمع الآخر رجلا يقرأ: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام ، ومن ذلك قوله تعالى: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين .

والثاني: أن إعجازه هو الوصف الذي صار به خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع، فلا يدخل في شيء منها ، ولا يختلط بها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلام العرب ومستعملة في نظمهم ونثرهم ، ولذلك تحيرت عقولهم وتدلهت أحلامهم ولم يمتدوا إلى مثله في جنس كلامهم .

الثالث: أن وجه إعجازه وهو أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه ، بل الإكباب على تلاوته تزيده حلاوة وتوجب له محبة وطلاوة ، ولا يزال غضا [ ص: 197 ] رطبا ، وغيره من الكلام ولو بلغ ما بلغ في الحسن والبلاغة يمل من ترديده ويعادى إذا أعيد .

* الرابع: أن وجه إعجازه هو ما فيه من الأخبار بما كان مما علموه ومما لم يعلموه ، فإذا سئلوا عنه عرفوا صحته وتحققوا صدقه .

*الخامس: أن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يكون فيوجد على صدقه وصحته .

*السادس: أن وجه إعجازه هو كونه جامعا لعلوم كثيرة لم يتعاط العرب الكلام فيها ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد منهم ، ولا يشتمل عليها كتاب .

فهذه ستة أوجه يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا ، فإذا جمعها القرآن فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره ، فيكون الإعجاز بجميعها .

( إذ تحدى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغاء الخلق وفصحاء العرب، وجزيرة العرب حينئذ مملوءة بالآلاف منهم والفصاحة صنعتهم وبها منافستهم ومباهاتهم) أي: مفاخرتهم مع توفر دواعيهم ، ( وكان ينادي بين أظهرهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله إن شكوا ، وقال لهم: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) أي: معينا ومساعدا ( وقال ذلك تعجيزا لهم فعجزوا عن ذلك) أي: عن الإتيان بشيء منه ( وصرفوا عنه) ونكلوا .

قال بعض العلماء: إن الذي أورده -صلى الله عليه وسلم- على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين في اللسان بكلام مفهوم المعنى عندهم ، وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه ، ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه ، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة ، فدل على أن العجز عنه إنما كان ليصير علما على رسالته وصحة نبوته ، وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح ، وقال أبو سليمان الخطابي: وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم- من عقلاء الرجال عند أهل زمانه ، بل هو أعقل خلق الله تعالى على الإطلاق ، وقد قطع القول فيما أخبر به عن ربه بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به فقال: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علام الغيوب ، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلا لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يكون ا هـ .

وهذا أحسن ما يقال في هذا المجال وأبدعه وأكمله ، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة، وبالتقصير قبل بلوغ الغرض في المناقضة صارخا بهم على رؤوس الأشهاد فلم يستطع أحد منهم الإلمام به مع توفر الدواعي وتظاهر الاجتهاد ( حتى عرضوا أنفسهم) الأبية ورضيت هممهم السرية ( للقتل) وسفك الدماء ( و) عرضوا ( نساءهم وذراريهم للسبي) والهتك ( وما استطاعوا أن يعارضوا) شيئا منه ( ولا أن يقدحوا في جزالته وحسنه) ، وقد ورد من الأخبار في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض ما نزل عليه على المشركين الذين كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة وإقرارهم بإعجازه جمل كثيرة .

* فمنها: ما ورد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس لوحده في المجلس: يا معشر قريش ألا أقدم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها منا ويكف عنا. قالو: بلى يا أبا الوليد. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث فيما قاله عتبة ، وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك ، فلما فرغ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني ، قال: أفعل. فقال -صلى الله عليه وسلم- : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم حتى بلغ: قرآنا عربيا فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرؤها عليه ، فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة فسجد فيها ، ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال: سمعت. قال: فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: يحلف بالله لقد جاءكم عتبة بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: إني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط. والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة ، يا معشر [ ص: 198 ] قريش ، أطيعوني ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، وقد أجابني بشيء ، والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة ، قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم حتى بلغ: فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت فمه وناشدته الرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. رواه البيهقي .

وروى مسلم والبيهقي في الدلائل من حديث إسلام أبي ذر ووصف أخاه أنيسا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس؛ لقد ناقض اثني عشر شاعرا في الجاهلية، أنا أحدهم ، وإنه انطلق إلى مكة وجاء إلى أبي ذر بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: وما يقول الناس ؟ قال: يقولون: شاعر ، كاهن ، ساحر ، لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم ، وقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم ولا يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون .

وروى ابن إسحاق في السيرة ، والبيهقي في الدلائل عن عكرمة في قصة الوليد بن المغيرة ، وكان زعيم قريش في الفصاحة أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ علي فقرأ عليه: إن الله يأمر بالعدل والإحسان إلى آخر الآية. قال: أعد ، فأعاد ، فقال: والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما يقول هذا بشر. الحديث .

وأخرج أبو نعيم من طريق إسحاق: حدثني إسحاق بن يسار، عن رجل من بني سلمة قال: لما أسلم فتيان بني سلمة قال عمرو بن الجموح لابنه: أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل . فقرأ عليه: الحمد لله رب العالمين إلى قوله: الصراط المستقيم فقال: ما أحسن هذا وأجمله ، وكل كلامه مثل هذا ؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا .




الخدمات العلمية