الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2583 وقال عقيل : عن الزهري ، قال عروة ، فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن ، وبلغنا أنه لما أنزل الله تعالى أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم ، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر ، أن عمر طلق امرأتين قريبة بنت أبي أمية ، وابنة جرول الخزاعي ، فتزوج قريبة معاوية ، وتزوج الأخرى أبو جهم ، فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم ، أنزل الله تعالى وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم والعقب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار ، فأمر أن يعطى من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي هاجرن ، وما نعلم أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها ، وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا مهاجرا في المدة ، فكتب الأخنس بن شريق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أبا بصير ، فذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قوله : قال عقيل ، بضم العين ، عن محمد بن مسلم الزهري إلى آخره ، تقدم موصولا بتمامه في أول الشروط ، ومضى [ ص: 18 ] الكلام فيه مستوفى ، وإنما أورده هنا لبيان ما وقع في رواية معمر بن راشد من الإدراج . قوله : ( كان يمتحنهن ) ، أي : يختبرهن بالحلف والنظر في الأمارات . قوله : ( وبلغنا ) هو مقول الزهري ، وكذا قوله : ( وبلغنا أن أبا بصير ) إلى آخره ، والمراد به أن قصة أبي بصير في رواية عقيل من مرسل الزهري ، وفي رواية معمر موصولة إلى المسور ، لكن قد تابع معمرا على وصلها ابن إسحاق ، وتابع عقيلا الأوزاعي على إرسالها ، والظاهر أن الزهري كان يرسلها تارة ويوصلها أخرى . قوله : ( من أزواجهم ) ، ويروى من أزواجهن ، وتأويله أن الإضافة بيانية ، أي : أزواج هي هن ، وفيه تعسف وضبط قريبة قد تقدم في الشروط ، وابنة جرول بفتح الجيم ، وسكون الراء ، وفتح الواو ، وباللام الخزاعي أم عبد الله بن عمر ، قيل : اسمها كلثوم ، وأبو جهم بفتح الجيم ، وسكون الهاء عامر بن حذيفة الأموي ، وقد تقدم أن ابنة جرول تزوجها صفوان بن أمية ، وهنا يقول : تزوجها أبو جهم ، ووجهه أن الأول رواية عقيل عن الزهري ، والثاني رواية معمر عنه . قوله : ( وإن فاتكم ) ، أي : سبقكم . قوله : ( فعاقبتم ) ، قال الزمخشري : من العقبة ، وهي النوبة ، شبه ما حكم به على المسلمين والمشركين من أداء المهور بأمر يتعاقبون فيه ، ومعناه ، فجاءت عقبتكم من أداء المهور . قوله : ( أن يعطى ) على صيغة المجهول ، وقوله : ( من صداق ) يتعلق به ، وقوله : ( ومن ذهب ) هو مفعول ما لم يسم فاعله ، وقوله : ( وما أنفق ) هو المفعول . قوله : ( مؤمنا ) حال ، ووقع في رواية السرخسي والمستملي : قدم من منى ، وهو تصحيف . قوله : ( مهاجرا ) حال إما من الأحوال المترادفة ، أو من المتداخلة . قوله : ( في المدة ) ، أي : في مدة المصالحة . قوله : ( يسأله ) جملة وقعت حالا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد من هذا الحديث ) : الذي ما وقع في البخاري حديث أطول منه فيه المصالحة مع أهل الحرب على مدة معينة ، واختلفوا في المدة ، فقيل : لا تجاوز عشر سنين على ما في الحديث المذكور ، وبه قال الشافعي ، والجمهور ، وقيل : تجوز الزيادة ، وقيل : لا تجاوز أربع سنين ، وقيل : ثلاث سنين ، وقيل : سنتين ، وقال أصحابنا : يجوز الصلح مع الكفار بمال يؤخذ منهم ، أو يدفع إليهم إذا كان الصلح خيرا في حق المسلمين ، والذي يؤخذ منهم بالصلح يصرف مصارف الجزية ، وفيه كتابة الشروط التي تنعقد بين المسلمين والمشركين ، والإشهاد عليها ليكون ذلك شاهدا على من رام نقض ذلك والرجوع منه ، وفيه الاستتار عن طلائع المشركين ، ومفاجأتهم بالجيش ، وطلب غرتهم إذا بلغتهم الدعوة ، وفيه جواز التنكب عن الطريق بالجيوش ، وإن كان في ذلك مشقة ، وفيه بركة التيامن في الأمور كلها ، وفيه أن ما عرض للسلطان وقواد الجيوش وجميع الناس مما هو خارج عن العادة يجب عليهم أن يتأملوه وينظروا السنة في قضاء الله تعالى في الأمم الخالية ، ويمتثلوا ويعلموا أن ذلك مثل ضرب لهم ونبهوا عليه كما امتثله الشارع صلى الله عليه وسلم في أمر ناقته وبروكها في قصة الفيل ; لأنها كانت إذا وجهت إلى مكة بركت ، وإذا صرفت عنها مشت كما كان دأب الفيل ، وهذا خارج عن العادة ، فعلم أن الله صرفها عن مكة كالفيل ، وفيه علامات النبوة وبركته صلى الله عليه وسلم ، وفيه بركة السلاح المحمولة في سبيل الله ، وفيه التفاؤل من الاسم كما سلف ، وفيه أن أصحاب السلطان يجب عليهم مراعاة أمره وعونه ، وفيه أن من صالح ، أو عاقد على شيء بالكلام ، ثم لم يوف له به أنه بالخيار في النقض ، وفيه جواز المعارضة في العلم حتى تتبين المعاني ، وفيه أن الكلام محمول على العموم حتى يقوم عليه دليل الخصوص ، ألا يرى أن عمر رضي الله تعالى عنه حمل كلامه على الخصوص ; لأنه طالبه بدخول البيت في ذلك العام ، فأخبره أنه لم يعده بذلك في ذلك العام ، بل وعده وعدا مطلقا في الدهر حتى وقع ذلك ، فدل على أن الكلام محمول على العموم حتى يأتي دليل الخصوص . وفيه أن من حلف على فعل ولم يوقت وقتا أن وقته أيام حياته ، وقال ابن المنذر : فإن حلف بالطلاق على فعل ، ولم يوقت وقتا أن وقته أيام حياته ، وإن حلف بالطلاق ليفعلن كذا إلى وقت غير معلوم ، فقالت طائفة : لا يطؤها حتى يفعل الذي حلف عليه ، فأيهما مات لم يرثه صاحبه ، هذا قول سعيد بن المسيب ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وأبي عبيد ، وقالت طائفة : إن مات ورثته وله وطؤها ، روي هذا عن عطاء ، وقال يحيى بن سعيد : ترثه إن مات ، وقال مالك : إن ماتت امرأته يرثها ، وقال الثوري : إنما يقع الحنث بعد الموت ، وبه قال أبو ثور ، وقال أبو ثور أيضا : إذا حلف ولم يوقت فهو على يمينه حتى يموت ، ولا يقع حنث بعد الموت ، فإذا مات لم يكن عليه شيء ، وقالت طائفة : يضرب لهما أجل المولي أربعة أشهر ، روي هذا عن القاسم ، وسالم ، وهو قول ربيعة ، والأوزاعي ، وقال أبو حنيفة : إن قال أنت طالق إن لم آت البصرة فماتت امرأته قبل أن يأتي البصرة ، فله الميراث ، ولا يضره أن لا يأتي البصرة بعد ; لأن [ ص: 19 ] امرأته ماتت قبل أن يحنث ، ولو مات قبلها حنث ، وكان لها الميراث ; لأنه فار ، ولو قال لها : أنت طالق إن لم تأت البصرة فمات ، فليس لها ميراث ، وإن مات قبلها حنث ، وكان لها الميراث ; لأنه فار ، وفيه قول سادس حكاه أبو عبيد عن بعض أهل النظر ، قال : إن أخذ الحالف في التأهب لما حلف عليه ، والسعي فيه حين تكلم باليمين حتى يكون متصلا بالبر ، وإلا فهو حانث عند ترك ذلك ، وقال ابن المنذر : في هذا الحديث دليل على أن من لم يحد ليمينه أجلا أنه على يمينه ، ولا يحنث إن وقف عن الفعل الذي حلف بفعله ، وفيه جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأي ، وفيه أن من جاء إلى غير بلد الإمام ليس على الإمام رده ، وفيه جواز قيام الناس على رأس الإمام بالسيف مخافة العدو ، وأن الإمام إذا جفا عليه أحد لزم ذلك القائم تغييره بما أمكنه ، وفيه فضل أبي بكر على عمر رضي الله تعالى عنهما في جوابه له بما أجاب به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وفيه جواز السفر وحده للحاجة ، وفيه جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته ، وفيه جواز التصرف في ملك الغير بالمصلحة بغير إذنه الصريح إذا كان سبق منه ما يدل على الرضا بذلك ، وفيه تأكيد القول باليمين ليكون أدعى إلى القبول ، وقال ابن القيم في ( الهدي ) : وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعا ، وفيه استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم ، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم ، ولو كانوا من أهل دينهم ، وفيه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهارا على غيرهم ، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار ، ولا من موادة أعداء الله تعالى ، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم ، وإنكار بعضهم ببعض ، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق ، وفيه أن الحربي إذا أتلف مال الحربي لم يكن عليه ضمانه ، وهو وجه للشافعية ، وفيه طهارة النخامة والشعر المنفصل ، والشافعية يحكمون بنجاسة الشعر المنفصل ، ومنهم من بالغ حتى كاد أن يخرج من الإسلام ، فقال : وفي شعر النبي صلى الله عليه وسلم وجهان . نعوذ بالله تعالى من هذا الضلال ، وفيه التبرك بآثار الصالحين من الأشياء الطاهرة ، وفيه جواز المخادعة في الحرب، وإظهار إرادة الشيء والمقصود غيره ، وفيه أن كثيرا من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم ، وينكرون من يصد عن ذلك تمسكا منهم ببقايا من دين إبراهيم صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفيه فضل المشورة ، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد ، وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول ، وفيه أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير قتله العامري ، ولا أمر فيه بقود ، ولا دية .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية