الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ولا يجوز بيع رقبة المكاتب فإن قيل [ ص: 248 ] بيعت بريرة ، قيل : هي المساومة بنفسها عائشة رضي الله عنها والمخبرة بالعجز بطلبها أوقية والراضية بالبيع " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف الفقهاء في بيع رقبة المكاتب ، فقال مالك : يجوز بيعه ، ويكون ولاؤه إن عتق للمشتري ، وحكاه أبو ثور عن الشافعي في القديم .

                                                                                                                                            وبه قال عطاء والنخعي وأحمد بن حنبل .

                                                                                                                                            وقال أبو ثور : يجوز بيعه ، ويكون ولاؤه إن عتق للبائع .

                                                                                                                                            وقال الشافعي في الجديد وسائر كتبه : إن بيعه لا يجوز .

                                                                                                                                            وبه قال أبو حنيفة .

                                                                                                                                            وقال الزهري وربيعة : يجوز بيع المكاتب بإذنه ، ولا يجوز بيعه بغير إذنه .

                                                                                                                                            واستدل من ذهب إلى جواز بيعه برواية هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة قالت : كوتبت بريرة على تسع أواق في كل سنة أوقية ، فجاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعينها ، فقالت عائشة : لا ، ولكن إن شئت عددت لهم مالهم عدة واحدة ، ويكون الولاء لي ، فذهبت بريرة إلى أهلها ، فذكرت لهم ذلك ، فأبوا عليها إلا أن يكون الولاء لهم ، فجاءت إلى عائشة وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسارتها بما قيل لها : فقالت عائشة رضي الله عنها : لا آذن إلا أن يكون الولاء لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ فقالت : أتتني بريرة تستعينني في كتابتها ، فقلت : لا إلا أن يشاء أهلك أن أعد لهم عدة واحدة ويكون الولاء لي ، فذهبت إليهم ، فقالوا : لا إلا أن يكون الولاء لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ابتاعيها وأعتقيها ، واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق " فاشترتها ، فأعتقتها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، ما بال رجال منكم يقولون : أعتق فلانا والولاء لي ، إنما الولاء لمن أعتق " . وكان زوجها عبدا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها ، ولو كان حرا لم يخيرها ، هذا الحديث في سنن الدراقطني ، وهو نص في جواز بيع المكاتب ، ولأن المكاتب كالعبد في عامة أحكامه ، فوجب أن يكون كالعبد في جواز بيعه ، ولأن الكتابة عتق بصفة ، وذلك لا يمنع من جواز البيع ، كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت حر ، والدليل على فساد بيعه ما قدمناه من المعاني الخمسة في فساد بيع نجومه ، ولأن السيد قد عاوض على رقبته بكتابته حتى زال ملكه عن أرش الجناية عليه ، فوجب أن يكون ممنوعا من بيعه ، كالعبد المبيع ، ولأن البيع إن توجه إلى نجوم الكتابة فقد أبطلناه ، لأن ملك السيد عليها غير مستقر ، وإن توجه إلى الرقبة اقتضى أن [ ص: 249 ] تكون نجوم الكتابة للسيد البائع ، لخروجها من البيع ، وإن توجه إليها لم يجز ، لأن مال العبد مملوك ، وهو لا يدخل في البيع ، وما أفضى إلى هذا وجب أن يكون باطلا ، ولأن بيعه لو صح لم يجز أن يعتق على مشتريه ، لأن صفة عتقه متقدمة على ملكه ، ولا على بائعه لزوال ملكه ، وفي ثبوت عتقه بالأداء دليل على فساد بيعه المنافي لحكمه ، ولأن عتقه إذا نفذ بعد بيعه مفض إلى سقوط الولاء لمستحقه ، لأنه لا يجوز أن يكون للبائع لزوال ملكه ، ولا للمشتري ، لأنه لم يعقد سبب عتقه ، وما أفضى إلى هذا فهو باطل ، ولأن عقد الكتابة يمنع من استقرار الملك على الرقبة ، لأنه مفض إلى العتق ، وعقد البيع يوجب أن يستقر ملك المشتري على المبيع فتنافى اجتماعها ، والكتابة لا تبطل بالبيع ، فوجب أن يبطل البيع بالكتابة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن حديث بريرة ، فهو أن الكتابة غير لازمة من جهة المكاتب وإن كانت لازمة من جهة السيد ، فصار مساومة بريرة لمواليها وهم آل المغيرة ، في ابتياع نفسها فسخا منها ، كما لو باع بشرط الخيار ثم باع ما باعه كان بيعه الثاني فسخا للبيع الأول ، كذلك يكون مساومة بريرة في نفسها وابتياعها فسخا ، وبيعها بعد فسخ الكتابة جائز ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بعتقها ، ولو بقيت الكتابة لعتقت بها ؟ قولهم : إن المكاتب في عامة أحواله كالعبد ، فليس ينكر أن يكون كذلك ، ولا يجوز بيعه كأم الولد ، ولأنه قد يخالف العبد في كثير من أحواله ، وإن وافقه في شيء منها .

                                                                                                                                            وأما المعتق نصفه فمخالف للمكاتب ، لأنه يملك أكسابه وأرش الجناية عليه ، فخالف المكاتب في جواز البيع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية