الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وبإذن أبويه لشفقتهما ورقتهما عليه إذا كانا مسلمين ، وإن كانا على غير دينه ، فإنما يجاهد أهل دينهما : فلا طاعة لهما عليه قد جاهد ابن عتبة بن ربيعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولست أشك في كراهية أبيه لجهاده مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاهد عبد الله بن عبد الله بن أبي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوه متخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " بأحد " يخذل من أطاعه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، إذا كان للمجاهد أبوان مسلمان لم يكن له أن يجاهد إلا بإذنهما لقول الله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ الإسراء : 23 ] . فجمع بين طاعته وطاعة الوالدين ، ثم قال : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف [ الإسراء : 23 ] . يعني : حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما القذى ، فلا تضجر كما كانا يميطانه عنه صغيرا من غير ضجر ، وفي هذا الأف تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح ، قاله مقاتل .

                                                                                                                                            والثاني : أنها كلمة تدل على التبرم والضجر ، خرجت مخرج الأصوات المحكية ، والعرب تقول : أف وتف ، والأف في اللغة وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار .

                                                                                                                                            ولا تنهرهما [ الإسراء : 23 ] . فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا ترد عليهما قولا .

                                                                                                                                            والثاني : لا تنكر منهما فعلا .

                                                                                                                                            وقل لهما قولا كريما فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : لينا .

                                                                                                                                            والثاني : حسنا .

                                                                                                                                            واخفض لهما جناح الذل من الرحمة [ الإسراء : 124 ] . فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه الخضوع لهما .

                                                                                                                                            والثاني : ترك الاستعلاء عليهما ، مأخوذ من علو الطائر بجناحه ، والمراد بالرحمة الحنو والشفقة ، فدل عموم ما أمر به من طاعتهما على أن يرجع في الجهاد إليهما .

                                                                                                                                            [ ص: 123 ] ثم من نص السنة ما رواه أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن فقال : " قد هجرت الشرك ، وبقيت هجرة الجهاد ، فهل لك باليمن أحد ؟ قال : نعم : أبواي قال : " استأذنتهما ؟ فإن أذناك فجاهد وإلا فبرهما .

                                                                                                                                            وروى حبيب بن أبي ثابت عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد .

                                                                                                                                            وروى عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : جئت أبايعك ، وتركت أبوي يبكيان فقال : ارجع إليهما ، فأضحكهما كما أبكيتهما وأبى أن يبايعه .

                                                                                                                                            وروي أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله : أبايعك على الجهاد فقال : هل لك من بعل ؟ قال : نعم ، قال : فانطلق فجاهد ، فإن لك فيه مجاهدا حثيثا ، يريد بالبعل من تلزمه طاعته من والد أو والدة مأخوذ من قولهم : بعل الدار ، أي مالكها ، ومنه سمي الزوج بعلا .

                                                                                                                                            ولأن فرض الجهاد على الكفاية وطاعة الأبوين من فروض الأعيان : فكان أوكد ، فأما إن كان أبواه مملوكين لم يلزمه استئذانهما : لأنهما يمنعانه تدينا ، وقد جاهد أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوه ، عتبة يقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر حتى قتل ، وكان سيد المشركين .

                                                                                                                                            وقاتل عبد الله بن عبد الله بن أبي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأبوه عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين يخذل الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصدهم عن اتباعه ، ويقول : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .

                                                                                                                                            وقيل : إن القائل لهذا قشير بن معتب فدل على أنه لا اعتبار بإذن من أشرك أو نافق لأن النفاق هو الشرك الخفي .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية