الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما من ارتد بعد الهدنة من المسلمين ولحق بهم لم يخل حال الإمام في عقد هدنته من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون قد اشترط فيها رد من ارتد إليهم ليؤخذوا برده وتسليمه سواء كان المرتد رجلا أو امرأة ، فإن امتنعوا من رده كان نقضا لهدنتهم .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يشترط فيه أن لا يردوا من ارتد إليهم من المسلمين ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرط ذلك لقريش في هدنة الحديبية .

                                                                                                                                            فأما الآن ففي جواز اشتراطه الهدنة قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدنة الحديبية : ولأن الردة قد أباحت دماءهم فسقط عنا حفظهم .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه شرط باطل : لأن هدنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية لما بطلت في رد من أسلم بطلت في ترك من ارتد : لأن أحكام الإسلام عليها جارية .

                                                                                                                                            والصحيح عندي من إطلاق هذين القولين أنها تبطل في ترك من ارتد من النساء ولا تبطل في ترك من ارتد من الرجال ، كما بطلت في رد من أسلم من النساء ، ولم تبطل في رد من أسلم من الرجال : لأن النساء ذوات فروج يحرم على الكافر من المرتدة مثل ما يحرم عليه من المسلمة ، ولعل اختلاف القولين محمول على ما ذكرنا من الفرق بين الفريقين .

                                                                                                                                            فإن قلنا بوجوب الرد كان عليهم لتمكين منهم ، وأن لا يذبوا عنهم ، ولم يكن عليهم تسليمهم : لأنهم ما التزموه فإن ذبوا عنهم ، ولم يمكنوا منهم انتقض عهدهم .

                                                                                                                                            وإن قلنا : إن الرد لا يجب عليهم جاز لهم أن يذبوا عنهم ، ولا يمكنوا منهم ، وكانوا فيه على عهدهم .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون عهد الهدنة مطلقا لم يشترط فيه رد من ارتد إليهم ، ولا إقراره معهم ، فإطلاقه يوجب رد من ارتد منا ، ولا يوجب رد من أسلم منهم : لأن إطلاقه موجب لإمضاء حكم الإسلام فيه : لأن حكمه أعلى ، فكان العقد عليه بمعنى ، فيلزمهم التمكن منهم ، ولا يلزمهم تسليمهم ، فإن ذبوا عنهم ، ولم يمكنوا انتقض عهدهم ، فصارت أحكام المرتد إليهم من هذه الأقسام ثلاثة تنقسم على أحكام ثلاثة :

                                                                                                                                            [ ص: 368 ] أحدها : أنه يجب عليهم تسليم المرتدين .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يجب عليهم التمكين من المرتدين ، ولا يجب عليهم تسليمهم .

                                                                                                                                            والثالث : لا يجب عليهم تسليمهم ، ولا التمكين منهم ، فإن لم يجب عليهم تسليمهم ، ولا التمكين منهم وجب عليهم أن يغرموا مهور من ارتد من نسائنا وقيمة من ارتد من عبيدنا وإمائنا ، ولم يجب عليهم عمن ارتد من الرجال الأحرار غرم كما لم يجب عليهم عمن أسلم من أحرارهم غرم : لأن رقبة الحر لا تضمن بغير جناية ، فلو عاد المرتدون إلينا لم نرد على أهل الذمة ما أخذناه من مهور النساء ، ورددنا ما أخذناه من قيمة العبيد : لأنهم قد صاروا لهم بدفع القيمة ملكا ، فلم يصر لنسائهم بدفع المهور أزواجا .

                                                                                                                                            وإن وجب عليهم التمكين منهم ، ولم يجب عليهم تسليمهم لم يجب عليهم غرم مهر ، ولا قيمة مملوك : لأننا إن وصلنا إليهم بالتمكين ، فقد وصلنا إلى حقنا ، وإن لم نصل إليهم مع التمكين فلعجزنا .

                                                                                                                                            وإن وجب عليهم تسليمهم أخذوا به جبرا إذا كان تسليمهم ممكنا ، ولا غرم إذا سلموهم . فإن فات تسليمهم بالموت أغرموا مهور النساء ، وقيمة العبيد والإماء ، وإن تعذر تسليمهم بالهرب ، فإن كان قبل القدرة على ردهم لم يغرموا مهرا ، ولا قيمة ، وإن كان بعد القدرة على ردهم غرموا مهور النساء وقيم العبيد والإماء .

                                                                                                                                            فإذا تقرر هذا ووجب لنا عليهم مهور من ارتد من نسائنا ، وقيم من ارتد من عبيدنا وإمائنا ، ووجب لهم علينا مهور من أسلم من نسائهم وقيم من أسلم من عبيدهم وإمائهم جعلناه قصاصا قولا واحدا : لما في القبض والتسليم من الخطر الشاق ، فإن استويا في القدر برئت منه الذمتان ، وإن فضل لنا رجعت بالفضل عليهم ، وإن فضل لهم دفعنا الفضل إليهم ، ودفع الإمام ما قاصصهم به من بيت المال إلى مستحقيه من المسلمين ، وكتب إليهم أن يدفعوا ما قصصوا به إلى مستحقه من المشركين ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية