الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " فإذا لم يقم بالنفير كفاية : خرج من تخلف ، واستوجبوا ما قال الله تعالى فيهم كفاية : حتى لا يكون النفير معطلا ، لم يأثم من تخلف لأن الله تعالى وعد جميعهم الحسنى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وجملته أن قتال العدو ينقسم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكونوا مقيمين في بلادهم : متشاغلين بأمورهم من مزارع وصنائع ومتاجر ، ففرض جهادهم على الكفاية ، وأقل ما يقاتلوا في كل عام مرة ، فإن كان في ثغرهم أمير مقلدا على غزوهم تعين عليه فرض تجهيزهم في الغزو وتدبيرهم في وقت الخروج على ما يأمنون ضرره من اشتداد حر أو برد ، ويسلك بهم أسهل الطرق وأوطأها وأكثرها ماء ومرعى ، وأقل ما يخرجه إليهم أن يقاتل كل رجل منهم رجلين من عدوهم كما قال الله تعالى : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين [ الأنفال : 66 ] . وأكثر ما يخرجه من أهل الثغر أن يخرج من كل رجلين رجلا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فإذا استقل ذلك الثغر على هذا التقدير قام بهم فرض الكفاية ، وسقط عن كافة الأمة ما لم يحدث فيتغير هذا التقدير بحسب الحادثة .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يسير العدو من بلاده إلى نحو بلاد الإسلام ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون بغير القتال فيكون حكم قتاله كحكمه لو كان مقيما لم يسر على ما قدمناه من فرض الكفاية في وقت غزوه ، ولكن ينبغي أن يتحرز من مكره في طلب غرة وانتهاز فرصة .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون بأهبة القتال مستعدا لحرب فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون على مسافة يوم وليلة فصاعدا من بلاد الإسلام ، ففرض جهاده [ ص: 144 ] على الكفاية ، غير متعين على الكافة كما لو كان مقيما في داره : لأنه ما تعداها ، لكن يجب التأهب لقتاله ، وفرض هذا التأهب على أعيان أهل ذلك الثغر .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يسير إلى مسافة أقل من يوم وليلة ، فهذا في حكم من قد أظل بلاد الإسلام ووصل إليها لقرب المسافة التي لا تقصر فيها الصلاة : فتعين فرض قتاله على جميع أهل ذلك الثغر من المجاهدين سوى النساء والصبيان والمرضى ، ويدخل في فرض القتال من عليه دين ومن له أبوان لا يأذنان له لأنه قتال دفاع ، وليس بقتال غزو ، فتعين فرضه على كل مطيق ، ثم ينظر عدد العدو ، فإن كانوا أكثر من ثلث أهل الثغر لم يسقط بأهل الثغر فرض الكفاية عن كافة المسلمين ، ووجب على الإمام إمدادهم بمن يقوم به الكفاية في دفع عدوهم ، وإن كانوا ثلثي أهل الثغر فما دون ، فهل يسقط بهم فرض الكفاية عن كافة المسلمين أم لا ؟ على وجهين حكاهما ابن أبي هريرة :

                                                                                                                                            أحدهما : يسقط بهما فرض الكفاية عن من عداهم لما أوجبه الله تعالى عليهم من قتال مثليهم فيصير فرض القتال عليهم متعينا ، وعن غيرهم ساقطا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لا يسقط عن غيرهم فرض الكفاية خوفا من الظفر بهم ، فيصير فرض القتال متعينا عليهم وباقيا على الكفاية في غيرهم .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يدخل العدو بلاد الإسلام ويطأها ، فيتعين فرض قتاله على أهل البلاد التي وطئها ودخلها ، فإن لم يكن بأهلها قدرة على دفعه تعين فرض القتال على كافة المسلمين حتى ينكشف العدو عنهم إلى بلاده ، وإن كان بهم قدرة على دفعه لم يسقط بهم فرض الكفاية عن كافة المسلمين ما كان العدو باقيا في دارهم ، وهل يصير فرض قتاله متعينا على كافة المسلمين كما تعين على أهل الثغر أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يتعين : لأن جميع المسلمين يد على من سواهم فيصير فرض قتالهم متعينا على كافة المسلمين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن لا يتعين عليهم ، ويكون باقيا على الكفاية لقدرة أهل الثغر على دفعهم ، فيصير فرض قتاله على أهل الثغر متعينا ، وعلى الكافة من فروض الكفايات ، ولا يراعى بعد دخول العدو دار الإسلام أن يكونوا مثلين ، كما يراعى قبل دخوله بل يراعى القدرة على دفعهم : لأن العدو بعد الدخول ظافر وقبله متعرض ، فإن انهزم أهل ذلك الثغر عنهم صار فرض جهادهم متعينا على كافة الأمة وجها واحدا حتى يردوه إلى بلاده ، فإذا ردوه إليها لم يخل حاله من أحد أمرين :

                                                                                                                                            [ ص: 145 ] أحدهما : أن يعود خاليا من سبي وأسرى ، فقد سقط ما تعين من فرض قتاله برده .

                                                                                                                                            والثاني : أن يعود بسبي وأسرى ، فيكون فرض قتاله باقيا حتى يسترجع من في يده من السبي والأسرى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية