الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما حقوق الآدميين المستهلكة عليهم في دار الحرب ، فإن كانت لأهل الحرب فهي مباحة بالكفر ، والمحاربة لا تضمن أموالهم ، ولا نفوسهم ، وإن كانت للمسلمين فضربان أموال ، ونفوس .

                                                                                                                                            فأما الأموال فيأتي ضمانها .

                                                                                                                                            وأما النفوس كمسلم قتل مسلما في دار الحرب فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون في حرب ، وقد مضى حكمه وذكرنا أقسامه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : يكون في غير حرب فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن لا يعلم بإسلامه فينظر في قتله ، فإن قتله خطأ ضمنه بالكفارة دون الدية ، لقول الله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة [ النساء : 92 ] . وإن قتله عمدا فلا قود عليه للشبهة ، وعليه الكفارة ، وفي وجوب الدية قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : - وهو اختيار المزني - لا دية عليه : لأن الجهل بإسلامه يغلب حكم الدار في سقوط ديته كما غلب حكمها في سقوط القود .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : - وهو اختيار أبي إسحاق المروزي - ضمن ديته تغليبا لحكم قصده ، ولا يؤثر سقوط القود الذي يسقط بالشبهة في سقوط الدية التي لا تسقط بالشبهة .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يقتله عالما بإسلامه فيلزمه بقتله في دار الحرب ما كان لازما له بقتله في دار الإسلام : إن كان بعمد محض وجب عليه القود ، والكفارة ، وإن كان بعمد الخطأ وجبت عليه الدية مغلظة والكفارة ، وإن كان بخطأ وجبت عليه الدية مخففة والكفارة ، ولا فرق بين من دخل دار الحرب مسلما أو أسلم فيها سواء هاجر أو لم يهاجر .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا قود في قتل المسلم في دار الحرب ، إذا لم يكن فيها إمام ، فأما الدية فإن دخلها وهو مسلم غير مأسور ضمن عمده بالدية دون الكفارة ، وضمن [ ص: 212 ] خطأه بالدية والكفارة ، وإن كان مأسورا لم يضمن ديته في عمد ولا خطأ ، وضمن بالكفارة في الخطأ دون العمد : لأن الأسير قد صار في أيديهم كالمملوك لهم ، وإن أسلم في دار الحرب وهاجر إلى دار الإسلام كان كالداخل إليها مسلما ، وإن لم يهاجر إليها كانت نفسه هدرا لا يضمن بقود ولا دية ، وتلزم الكفارة في الخطأ دون العمد : احتجاجا بقول الله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا [ الأنفال : 72 ] . وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أنا بريء من كل مسلم مع مشرك ، وهذا موجب لإهدار دمه قال : ولأنه دم لم يحقن في دار الإسلام فلم يضمن في دار الحرب كالحربي .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله عز وجل : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ، وهذا مظلوم بالقتل فوجب أن يكون لوليه سلطانا في القود والدية ، ولأنه إسلام صار الدم به محقونا ، فوجب أن يصير به مضمونا كالمهاجر ، ولأن كل دار ينهدر الدم فيها بالردة ، يضمن الدم فيها بالإسلام كدار الإسلام .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية فهو ورودها في الميراث : لأنهم كانوا في صدر الإسلام يتوارثون بالإسلام والهجرة ، ثم نسخت حين توارثوا بالإسلام دون الهجرة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الخبر فهو إنما تبرأ من أفعاله ، ولا يوجب ذلك هدر دمه كما قال : من غشنا فليس منا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه فهو أن هذا هدر دم محقون ، فلم يكن لاختلاف الدار تأثير ، ودم الحربي مباح فلا يكن لاختلاف الدار تأثير ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية