الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 87 ] فصل : [ حجة الوداع ]

                                                                                                                                            ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع ، وسميت بذلك لأنه ودع فيها الناس .

                                                                                                                                            وسميت : حجة البلاغ ؛ لأنه بلغ أمته فيها ما تضمنته خطبته ، وسميت : حجة التمام ؛ لأنه بين تمامها وأراهم مناسكها ، وسميت : حجة الإسلام ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد فرض الحج غيرها .

                                                                                                                                            وقيل : لم يحج بعد النبوة غيرها .

                                                                                                                                            وحكى مجاهد أنه حج قبل الهجرة حجتين ، ورواه جابر بن عبد الله ، فصارت حججه ثلاثا في روايتهما ، فخرج لها من المدينة في يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، فصلى فيه بذي الحليفة الظهر مقصورة ركعتين ، وأحرم منها وخرج بجميع نسائه في الهوادج ، فاختلف في إحرامه .

                                                                                                                                            فروى خمسة من أصحابه أنه أفرد الحج .

                                                                                                                                            وروى عنه أربعة أنه قرن .

                                                                                                                                            وروى عنه ثلاثة أنه تمتع وساق مائة بدنة هديا مقلدا مشعرا ودخل مكة في يوم الاثنين الرابع من ذي الحجة من أعلى كداء . وقيل : بل دخلها في يوم الثلاثاء نهارا ، ودخل المسجد من باب بني شيبة ، وطاف بالبيت سبعا مبتدئا من الحجر الأسود ، ورمل في ثلاثة أشواط منها واضطبع بردائه في جميعها ، وصلى خلف المقام ركعتين ، وسعى بين الصفا والمروة سبعا ، وكان قد اضطرب بالأبطح ، فرجع إلى منزله ، فلما كان قبل يوم التروية بيوم ، خطب بمكة بعد الظهر وبات بها ، وخرج في يوم التروية إلى منى ، وبات بها ، وغدا من الغد إلى عرفات ، وصلى في مسجد إبراهيم ، ووقف بالهضاب من عرفات ، وقال : كل عرفة موقف ، إلا بطن عرنة ، فوقف بها على راحلته ، فلما غربت الشمس دفع منها إلى مزدلفة ، يسير العنق فإذا وجد فجوة نص وجمع بمزدلفة بين المغرب وعشاء الآخرة ، في وقت عشاء الآخرة بأذان وإقامتين ، وبات بها ، وأخذ منها حصى جماره .

                                                                                                                                            [ ص: 88 ] وسار منها إلى منى ليصلي صلاة الفجر ، وقدم الذرية والنساء قبل الفجر ، ووقف على قزح راكبا ، وأوضع السير في وادي محسر ، ودخل منى ، فرمى جمرة العقبة قبل الزوال ، ونحر ، وحلق ، وأخذ من شاربه وعارضيه ، وقلم أظفاره ، واقتسم شعره أصحابه ، وأمر بدفن ما بقي من شعره وأظفاره ، وتطيب ولبس قميصا ، وأمر مناديه فنادى بمنى " إنها أيام أكل وشرب وبعال فلا تصوموا " وقال للناس : خذوا عني مناسككم ، ونحر بيده من هديه نيفا وستين بدنة ، ودفع الحربة إلى علي فنحر باقيها ، وقال : ائتوني من كل بدنة ببضعة فطبخت فأكل منها وأكل معه علي وجعفر .

                                                                                                                                            ثم سار إلى مكة فطاف بالبيت طواف الإفاضة . قال طاوس : وطاف راكبا على راحلته ، ودخل البيت فصلى فيه ركعتين بين العمودين ، وأتى زمزم فشرب منها ، ونفل وشرب من سقاية العباس ، وسعى ، وعاد إلى منى فصلى بها الظهر وجميع الصلوات ، وخطب بمنى بعد الظهر على ناقته القصوى بين الجمرات ، وتداولها الرواة ، وذكرها الطبري في تاريخه ، وأوردها الجاحظ في كتاب البيان .

                                                                                                                                            وقال : الحمد الله ، نحمده ، ونستعينه ، ونؤمن به ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثكم على العمل بطاعته ، وأستفتح الله بالذي هو خير .

                                                                                                                                            أما بعد :

                                                                                                                                            أيها الناس ، استمعوا مني أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، في موقفي هذا ، أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، اللهم فاشهد ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ، ولكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله أنه لا ربا ، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب .

                                                                                                                                            وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وأول دم وضع دم عامر بن أبي ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ، والعمد قود ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ، وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية ، أيها الناس ، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ، مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم ، أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله [ التوبة : 37 ] . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم [ ص: 89 ] خلق الله السماوات والأرض إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم [ التوبة : 36 ] . ثلاثة متواليات ، وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب ، فهو الذي بين جمادى وشعبان ألا هل بلغت اللهم فاشهد .

                                                                                                                                            أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حقا ، ألا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم ، ولا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن ، وتهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا .

                                                                                                                                            أيها الناس : إنما المؤمنون إخوة ، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلموا أنفسكم ، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض : فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا : كتاب الله ، ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد .

                                                                                                                                            أيها الناس : إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد كلكم من آدم ، وآدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم ، قال : فليبلغ الشاهد الغائب .

                                                                                                                                            أيها الناس : إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ، من ادعى إلى غير أبيه ، ومن تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا .

                                                                                                                                            أيها الناس : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم حبشي مجدع ، ما أقام فيكم كتاب الله ، أرقاءكم أرقاءكم ، أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ، فإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ، ولا تعذبوهم ، ألا هل بلغت ؟ ألا يبلغ الشاهد منكم الغائب : فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له ممن سمعه ، والسلام عليكم ورحمة الله .

                                                                                                                                            وحكى ابن إسحاق أن هذه الخطبة كانت بعرفة ، وكان المبلغ لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربيعة بن أمية بن خلف ، فيجوز أن يكون خطبها في الموضعين ؛ زيادة في الإبلاغ .

                                                                                                                                            وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردف في حجه هذا ثلاثة ، أردف أسامة بن زيد من عرفة إلى مزدلفة ، وأردف الفضل بن العباس من مزدلفة إلى منى ، وأردف معاوية بن أبي سفيان من منى إلى مكة .

                                                                                                                                            [ ص: 90 ] قال الشعبي : ونزلت على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] . وهو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم ، واضمحل الشرك ، وهدمت منابر الجاهلية ولم يطف بالبيت عريان .

                                                                                                                                            وفي هذه السنة قدم جرير بن عبد الله البجلي المدينة مسلما في شهر رمضان .

                                                                                                                                            فأما ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة فأربع عمر .

                                                                                                                                            وفي هذه السنة أسلم من باليمن فيروز الديلمي ، وباذان ، ووهب بن منبه ، وكان في هذه السنة سريتان .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية