الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الفصل الثالث : في بيان الضيافة ، فيعتبر فيها ثلاثة شروط :

                                                                                                                                            أحدها : عدد الأضياف .

                                                                                                                                            والثاني : أيام الضيافة .

                                                                                                                                            والثالث : قدر الضيافة .

                                                                                                                                            فأما الشرط الأول : في عدد الأضياف ، فهو أن يشترط على الموسر ما استقر عليه من خمسة إلى عشرة ، وعلى المتوسط من ثلاثة إلى خمسة بحسب ما يقع عليه التراضي ، ليضيف كل واحد منهم القدر المشروط عليه في يساره وتوسطه ، فإن سوى بين الموسر والمتوسط في عدد الأضياف جاز مع المراضاة ، كما يجوز أن يسوي بينهم في دينار الجزية ، فإن شرط على جميع الناحية عددا من الأضياف كأنه شرط على الناحية ضيافة ألف رجل جاز ، واجتمعوا على تقسيط الألف بينهم على ما ينفقون عليه من تفاضل أو تساو ، فإن اختلفوا ، وتنازعوا إلينا قسطت بينهم على التساوي دون التفاضل ، فإن كانت لهم جزية رءوس : تفاضلوا فيها ، ففي اعتبار الضيافة بها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يتفاضلون في الضيافة بحسب تفاضلهم في جزية الرءوس إذا جعلت الضيافة تبعا .

                                                                                                                                            والثاني : يتساوون في الضيافة ، وإن تفاضلوا في الجزية إذا جعلت الضيافة أصلا .

                                                                                                                                            وأما الشرط الثاني : في أيام الضيافة : فالعرف والشرع فيها لكل ضيف ثلاثة أيام .

                                                                                                                                            أما العرف فمشهور في الناس تقديرها بالثلاث .

                                                                                                                                            وأما الشرع : فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الضيافة ثلاثة أيام ، وما زاد عليها مكرمة .

                                                                                                                                            وروي : صدقة ، ولأن الضيافة مستحقة للمسافر ، ومقامه في سفره ثلاث ، وما زاد عليها مغير لحكم السفر إلى الإقامة ، والضيافة لا يستحقها مقيم ، فإن زاد في الشرط [ ص: 306 ] على ثلاث أو نقص منها كان الشرط أحق من مطلق الشرع والعرف ، ويذكر عدد أيام الضيافة في السنة أنها مائة يوم أو أقل ، أو أكثر ليكون أنفى للجهالة ، فإن لم يذكر عدد الضيافة ، وأيامها في السنة ، واقتصر على ذكر ثلاثة أيام عند قدوم كل قوم كان على الوجهين في الضيافة :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز إذا جعلت تبعا .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز إذا جعلت أصلا .

                                                                                                                                            وأما الشرط الثالث : فهو قدر الضيافة ، فمعتبرة من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : جنس الطعام ، وذلك غالب أقواتهم من الخبز والأدم ، فإن كانوا يقتاتون الحنطة ، ويتأدمون باللحم ، فإن عليهم أن يضيفوهم بخبز الحنطة وأدم اللحم .

                                                                                                                                            وإن كانوا يقتاتون الشعير ، ويتأدمون بالألبان أضافوهم منه أو بما سوى ذلك مما هو غالب قوتهم وإدامهم ، وإن كانت لهم ثمار وفواكه يأكلونها غالبا في كل يوم شرطها عليهم في زمانها ، وليس للأضياف أن يكلفوهم ما ليس بغالب من أقواتهم ، وإدامهم ، ولا ذبح حملانهم ودجاجهم ، ولا الفواكه النادرة والحلوى التي لا تؤكل في يوم غالبا ، ولا ما لم يتضمنه شرط صلحهم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : مقدار الطعام والإدام ، وللطعام في الشرع أصل أكثره " مدان " من حب في فدية الأذى ، وأقله " مد " في كفارة الأيمان : لأنه ليس يحتاج أحد في الأغلب إلى أكثر من " مدين " ، ولا يقتنع في الأغلب بأقل من " مد " ، و " المد " رطل وثلث ، ويكون خبزه رطلين ، والمدان أربعة أرطال خبزا .

                                                                                                                                            فأما الإدام ، فلا أصل له في الشرع ، فيكون مقداره معتبرا بالعرف الغالب يشرط لكل ضيف من الخبز كذا ، فإن ذكر أقل من رطلين لم يقتنع ، وإن ذكر أكثر من أربعة لم يحتج إليها ، ولو شرط ثلاثة كان وسطا ، ويذكر جنس الإدام ، ومقداره للضيف في كل يوم ، وإن كانت له دواب ذكر ما يعلفه الواحد منها في كل يوم من التبن والقت والشعير بمقدار كاف ، لا سرف فيه ولا تقتير ، فإن شرط علفها ، وأطلقه علفت التبن والقت ، ولا يلزمهم للأضياف أجرة حمام ، ولا طبيب ، ويشترط عليهم أن من انقطع مركوبه حملوه إلى أقرب بلاد الضيافة لهم ، فإن لم يشترط عليهم لم يلزمهم .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : السكن لحاجتهم إليه في الحر والبرد ، فيشترط عليهم أن يسكنوهم من فضول منازلهم ، وكنائسهم ، وبيعهم ، ليكنوا فيها من حر وبرد ، وكذلك لدوابهم .

                                                                                                                                            وقد كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام أن يؤخذ أهل الذمة [ ص: 307 ] بتوسيع أبواب كنائسهم وبيعهم ، ليدخلها الراكب إذا نزلها ، وليس للأضياف إخراجهم من مساكنهم إذا نزلوا عليهم ، وإن ضاقت بهم .

                                                                                                                                            ويثبت الإمام ما استقر من صلح هذه الضيافة في ديوان كل بلد من بلاد الضيافة ، ليأخذهم عامل ذلك البلد بموجبه ، ثم يثبته في الديوان العام : لثبوت الأموال كلها ليرفع إليه عند الحاجة إذا تنازع فيه المسلمون وأهل الذمة ، وإن فقد الديوان ، ولم يعرف فيه ما صولحوا عليه عمل ما يشهد به شاهدان من المسلمين ، فإن لم يكن عندهم شهادة قبل فيه قول أهل الذمة إقرارا لا خبرا ولا شهادة ، فإن عمل على قولهم فيها ثم بان له زيادة رجع عليهم بها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية