الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن فتح أرض السواد عنوة انتقل ، الكلام إلى فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : حكم أرض العنوة .

                                                                                                                                            والثاني : ما استقر عليه حكم أرض السواد بعد الاستنزال .

                                                                                                                                            فأما الفصل الأول : في حكم كل أرض إذا فتحت عنوة ، فقد اختلف فيه الفقهاء على مذاهب شتى .

                                                                                                                                            [ ص: 260 ] فذهب الشافعي إلى أنها تكون غنيمة كسائر الأموال ، يخرج خمسها لأهل الخمس ، وتقسم باقيها بين الغانمين كقسمة الأموال المنقولة إلا أن يرى إمام العصر أن يستنزلهم عنه بطيب أنفسهم ، أو بعوض يبذله لهم ليفضها على كافة المسلمين ، فيمضي ، وإلا فهي غنيمة مقسومة لعموم قول الله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال 41 ] . فدل على أن ما سوى الخمس للغانمين ، كما قال : وورثه أبواه فلأمه الثلث [ النساء : 11 ] . فدل على أن ما سوى الثلث للأب .

                                                                                                                                            وقال مالك والأوزاعي : الأرض غير مغنومة ، وتصير بالفتح وقفا على كافة المسلمين ، لا يجوز لهم بيعها .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يكون الإمام فيها مخيرا بين ثلاثة أشياء : بين أن يقسمها على الغانمين كالذي قاله الشافعي ، وبين أن يقرها على ملك أربابها ، ويضرب عليهم جزيتين :

                                                                                                                                            إحداهما : على رءوسهم ، والأخرى على أرضهم .

                                                                                                                                            فإذا أسلموا سقطت جزية رءوسهم ، وبقيت جزية أرضهم تؤخذ باسم الخراج : ويجوز لهم بيعها .

                                                                                                                                            وبين أن يقفها على كافة المسلمين ، فلا يجوز لهم بيعها .

                                                                                                                                            وأما الفصل الثاني : فيما استقر عليه حكم أرض السواد بعد الاستنزال عنها ، فالذي نص عليه الشافعي في سير الواقدي أن عمر وقفها على كافة المسلمين ، فلا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث كسائر الوقوف ، وقال في مثله من كتاب الرهن : إنه لو رهن أرضا من أرض الخراج كان الرهن باطلا ، ثم إن عمر بعد وقفها أجرها للدهاقين والأكرة بالخراج الذي ضربه عليها يؤديه في كل سنة أجرة عن رقابها ، فيكونوا أحق بالتصرف فيها لأصل الإجازة ، وإن لم تكن ملكا لهم وإذا مات أحدهم انتقل إلى وارثه يدا لا ملكا كالموروث ، وبه قال أبو سعيد الإصطخري ، وأكثر البصريين ، واختلف من قال بهذا فيما توجه الوقف إليه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : إلى جميع الأرض من مزارع ومنازل .

                                                                                                                                            والثاني : إلى المزارع دون المنازل : لأن وقف المنازل مفض إلى خرابها ، فهذا قول من جعلها وقفا .

                                                                                                                                            وقال أبو العباس بن سريج ، وأبو إسحاق المروزي : لم يقفها عمر ، وإنما باعها على أربابها بثمن يؤدى في كل سنة على الأبد بالخراج المضروب عليها لينتفع بها [ ص: 261 ] الآخرون كما انتفع بها الأولون ، ويكون الخراج ثمنا ويجوز أن تباع ، وتوهب ، وتورث ، قالوا : وإنما كانت مبيعة ، ولم تكن وقفا لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن عمر قصد بما فعله فيها حفظ عمارتها ، ولو كانت وقفا لا يملكها المتصرف ، ويرى أنها ليست ملكا مبيعا موروثا لم يشرع أهلها في تأبيد عمارتها ، وراعوا ما يتعجلون به استغلالها ، فأفضى ذلك إلى خرابها ، وزوال الغرض المقصود بها .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما لم يزل أهلها على قديم الوقت وحديثه ، يتبايعونها ويتوارثونها ، ولا ينكره عليهم أحد من أئمة الأمصار ، ولا يبطله أحد من القضاة والحكام ، ولا يمتنع أحد من العلماء من أهل الديانات أن يتبايعوها ، ويتوارثوها ، دل على انعقاد الإجماع على خروجها من أحكام الوقف إلى أحكام الأملاك .

                                                                                                                                            قالوا : وإنما استجاز عمر بيعها بهذا الثمن المجهول المؤبد لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : لوصولها من جهة المشركين المعفو عن الجهالة فيما صار منهم ، كما بذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البدأة والرجعة الثلث والربع من الغنيمة ، وإن كان قدرها مجهولا ، وكما يجوز أن يبذل لمن دل على القلعة في بلاد الشرك جارية من أهلها وإن جهلت .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما تعلق بالمصالح العامة يخفف حكم الجهالة فيه للجهالة بأحكام العموم .

                                                                                                                                            وإطلاق هذين المذهبين في وقفها وبيعها عندي معلول : لأن ما فعله عمر فيها لا يثبت بالاجتهاد حتى يكون نقلا مرويا ، وقولا محكيا عن عقد صريح يستوثق فيه بالكتاب والشهادات في الأغلب ، وهذا معدوم فيه ، فلم يصح القطع بوقفها لما عليه الناس من تبايعها ، ولا القطع ببيعها بالخراج المضروب عليها ، لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الخراج مخالف للأثمان بالجهالة ، وأنه مقدر بالزراعة .

                                                                                                                                            والثاني : أن مشتريها يدفع خراجها دون بائعها ، فيصير دافعا لثمنين ، وليس للمبيع إلا ثمن واحد ، ويكون ما قيل من وقفها محمولا على أنه وقفها على قسمة الغانمين ووقف خراجها على كافة المسلمين ، فيكون ملكها مطلقا لمن أقرت عليه استصحابا لقديم ملكهم ، لما علم من عموم المصلحة فيه ، ودوام الانتفاع به ، فتصير مخالفة للأرض الصلح من وجهين ، وموافقة لها من وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 262 ] فأما الوجهان من المخالفة ، فأحدهما : أن أرض الصلح لا حق للغانمين في رقابها ، فيمنعون منها جبرا ، وأرض السواد كانت رقابها للغانمين ، فاستنزلوا عنها عفوا ، وعوض منهم من أبى .

                                                                                                                                            والثاني : أن خراج أرض الصلح لأهل الفيء خاصة ، وفيه الخمس لأهل الخمس ، وخراج أرض السواد لكافة المسلمين ، ولا خمس فيه لأهل الخمس لأن الخمس أخرج عنه عند قسمه .

                                                                                                                                            وأما الوجهان في الموافقة ، فأحدهما : وضع الخراج على رقابها .

                                                                                                                                            والثاني : جواز بيعها .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روي عن فرقد السبخي أنه قال : اشتريت شيئا من أرض السواد ، فأتيت عمر ، فأخبرته بذلك ، فقال : ممن اشتريتها ؟ فقلت : من أربابها ، فقال : هؤلاء أربابها يعني الصحابة ، فدل على أن بيعها لا يجوز .

                                                                                                                                            فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أنكر البائع ، ولم ينكر البيع .

                                                                                                                                            والثاني : أنه محمول على ما قبل استنزالهم عنها أن ابتياعها لا يجوز إلا من الغانمين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية