الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وإذا التقوا والعدو فلا يولوهم الأدبار قال ابن عباس " من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر " ( قال الشافعي ) هذا على معنى التنزيل فإذا فر الواحد من الاثنين فأقل إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة من المسلمين قلت أو كثرت بحضرته أو مبينة عنه فسواء ، ونيته في التحريف والتحيز ليعود للقتال المستثنى المخرج من سخط الله ، فإن كان هربه على غير هذا المعنى خفت عليه إلا أن يعفو الله أن يكون قد باء بسخط من الله " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد ذكرنا أن الجهاد من فروض الكفايات قبل التقاء الزحفين ، ومن فروض الأعيان إذا التقى الزحفان لقول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا [ الأنفال : 45 ] . فأمر بمصابرة العدو بعد لقائه ، والثبات لقتاله ، وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا [ آل عمران : 200 ] . الآية ، وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أعداء الله ، ورابطوا في سبيل الله ، وهذا قول الحسن وقتادة .

                                                                                                                                            والثاني : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدكم ، و " رابطوا " عدوي وعدوكم ، وهذا قول محمد بن كعب .

                                                                                                                                            وقوله : لعلكم تفلحون [ آل عمران : 200 ] . أي لتفلحوا ، وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : لتؤدوا فرضكم .

                                                                                                                                            والثاني : لتنصروا على عدوكم .

                                                                                                                                            [ ص: 181 ] وأصل هذا أن الله تعالى أوجب في ابتداء فرض الجهاد على كل مسلم أن يصابر في القتال عشرة من المشركين بقوله تعالى : ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون [ الأنفال : 65 ] . وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يعلمون ما فرض الله عليكم من الإسلام .

                                                                                                                                            والثاني : لا يعلمون ما فرض الله عليكم من القتال ، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك عنهم عند كثرتهم واشتداد شوكتهم لعلمه بدخول المشقة عليهم ، فأوجب على كل مسلم لاقى المشركين محاربا أن يقف بإزاء رجلين بعد أن كان عليه أن يقف بإزاء عشرة تخفيفا ورخصة بقوله تعالى : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين [ الأنفال : 66 ] . وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : بمعونة الله .

                                                                                                                                            والثاني : بمشيئة الله ، والله مع الصابرين وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : مع الصابرين على القتال في معونتهم على عدوهم .

                                                                                                                                            والثاني : مع الصابرين على الطاعة في قبول عملهم وإجزال ثوابهم ، فصار فرضا على كل رجل مسلم لاقى عدوه زحفا في القتال أن يقاتل رجلين مصابرا لقتالهما ، ولا يلزمه مصابرة أكثر من رجلين ، وليس المراد به الواحد إذا انفرد أن يصابر قتال رجلين وإنما المراد به الجماعة من المسلمين إذا لاقوا عدوهم أن يصابروا قتال مثلي عددهم . هذا مذهب الشافعي ، وبه قال عبد الله بن عباس .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : هذا إخبار من الله تعالى عن حالهم ، وموعد منه إذا صابروا مثلي عددهم أن يغلبوا ، وليس بأمر مفروض اعتبارا بلفظ القرآن ، وأنه خارج مخرج الخبر دون الأمر .

                                                                                                                                            وقال الحسن البصري ، وقتادة : هو خارج مخرج الأمر ، لكنه خاص في أهل بدر دون غيرهم ، وكلا القولين فاسد : لأنه لو خرج مخرج الخبر لم يجز أن يكون بخلاف مخبره وقد يوجد أحيانا خلافه ، ولم يجز أن يختص بأهل بدر لنزول الآية بعد بدر ، وأن من قاتل ببدر إن لم يخفف عنهم لم يغلظ عليهم ، فثبت أنه أمر من الله تعالى محمول على العموم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية