الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " والرقاب المكاتبون من حيز إنما الصدقات والله أعلم ، ولا يعتق عبد يبتدأ عتقه فيشترى ويعتق " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح والرقاب صنف من أهل الصدقات ، لقوله تعالى وفي الرقاب [ ص: 503 ] فاختلف الفقهاء فيهم ، فذهب الشافعي إلى أنهم المكاتبون يعطون المسمى لهم يستعينون به في مال كتابتهم ولا يبتدئ عتق رقاب تشترى ، وهو في الصحابة قول علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، وفي التابعين قول سعيد بن جبير والنخعي ، وفي الفقهاء قول أبي حنيفة والثوري .

                                                                                                                                            وقال مالك : الرقاب أن يبتدأ عتق رقاب تشترى . وهو في الصحابة قول عبد الله بن عباس ، وفي التابعين قول الحسن البصري ، وفي الفقهاء قول أحمد وإسحاق استدلالا بقوله تعالى : وفي الرقاب وفيها ثلاثة أدلة :

                                                                                                                                            أحدها : أن مطلق اسم الرقبة يتناول العبد القن دون المكاتب ؛ بدليل قوله تعالى : تحرير رقبة يقتضي عتق العبد القن دون المكاتب .

                                                                                                                                            والثاني : أن الله تعالى أضاف سهمان الصدقات إلى الأصناف بلام التمليك : " إنما الصدقات للفقراء " وخالف صيغة اللفظ في الرقاب بأن حذف لام التمليك ، فقال وفي الرقاب فجعل ذلك فيهم ولم يجعله لهم ، فاقتضى ألا يملكه المكاتبون ويشترى به عبيد يعتقون ليصح أن يكون فيهم ولا يكون لهم .

                                                                                                                                            والثالث : أن المكاتبين من جملة الغارمين ، فلو أريدوا بالآية لاكتفى بذكر الغارمين عن ذكرهم ، ولأن ما وجب من أموال الطهرة نوعان : زكوات ، وكفارات ، فلما كان في الكفارات عتق وجب أن يكون في الزكوات عتق .

                                                                                                                                            وتحريره : أنه أحد نوعي الطهرة ، فوجب أن يختص بعتق ويفرقه كالكفارات ودليلنا قوله تعالى : وفي الرقاب [ التوبة : 60 ] ، ومنها سبعة أدلة :

                                                                                                                                            أحدها : أن الله تعالى جعل ذلك في الرقاب لا في السادة وملكه يجعله في السادة لا في الرقاب .

                                                                                                                                            والثاني : أن سائر الأصناف لما استحقوا الأخذ وجب أن يكون صنف الرقاب مستحقا الأخذ .

                                                                                                                                            والثالث : أن الله تعالى ذكر في الآية ثمانية أصناف وقرن فيها بين كل صنفين يتقارب معناهما فنقارب في حاجتنا إليهم ، وفرق بين سبيل الله وابن السبيل : لأن معناهما متقارب في اختصاصهم بقطع مسافة ، وفرق بين الرقاب والغارمين ، فوجب أن يكون معناهما متقاربا ، فلما أخذ الغارمون لما في الذمة اقتضى أن يأخذ الرقاب لما في الذمة .

                                                                                                                                            والرابع : أن الله تعالى جعل المصروف إلى الأصناف صدقة وفي صرفه في العتق يصير ثمنا يخرج عن حكم الصدقة .

                                                                                                                                            والخامس : أن الله تعالى جعل كل صنف من أهل الصدقة ممن يمكن دفع سهمه إليه [ ص: 504 ] من كل صدقة ولا يمكن إذا جعل سهم الرقاب في العتق أن يعتق سهمهم من كل صدقة ، وإذا جعل في المكاتبين أمكن أن يدفع إليهم من كل صدقة .

                                                                                                                                            والسادس : أنه لو صرف سهم الرقاب في مكاتبين وبقي عليهم من آخركم آخر نجم ما يعتقون به فأعطوا ما عتقوا به أجزأ ، ولو خرجوا من حكم الآية لم يجز كالعتق في الكفارة فدل على أنهم المراد بالآية .

                                                                                                                                            والسابع : أن الله تعالى لو أراد بالرقاب المعتق لقرنه بذكر التحرير كالكفارة حيث قال : فتحرير رقبة مؤمنة ولا يقتضي أن يحمل مطلق الرقاب في الصدقة على المقيد منها في الكفارة : لأن في المطلق في الرقاب ما يجزئ وهو ما ذكرنا من المكاتبين ، فكان حمل المطلق على المطلق أولى من حمله على المقيد ، وخالف تقييد الشهادة بالعدالة في موضع وإطلاقها في آخر : لأنه ليس في الشهادة مال يعتبر فيه العدالة : فلذلك وجب حمل المطلق على المقيد ، ويدل عليه من طريق الاعتبار أنه صنف من أهل الصدقة ، فوجب أن يكونوا على صفة يستحقون بها الأخذ قياسا على سائر الأصناف ، ولأن العتق يقتضي ثبوت الولاء للمعتق ، فلو أعتق سهم الرقاب لم يخل أن يثبت على المعتق ولاء أو لا يثبت ، فإن لم يثبت عليه وإلا سلب حكم العتق .

                                                                                                                                            وقد قال النبي - صلي الله عليه وسلم - : الولاء لمن أعتق ، وإن ثبت عليه الولاء لم يخل أن يكون لرب المال أو لغيره فلم يجز أن يكون لغيره : لأنه غير معتق بماله ولم يجز أن يكون لرب المال لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ما اشتراه ولا اشتري له .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لا يستفيد بإخراج زكاته ملكا كسائر الأصناف فثبت امتناع العتق .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلو أخذ الغارم سهمه وعليه لرب المال دين جاز أن يستعيده من دينه فيصير ملكا له .

                                                                                                                                            قيل : ليس هذا في كل غارم ولا الغارم الذي عليه الدين يلزمه رد ذلك بعينه : لأنه لو دفع غيره أجزأ .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم من الآية من أن مطلق الرقبة يتناول العبد القن دون المكاتب فهو أن ادعاء ذلك غير مسلم : لأنه إن أطلق تناولت القن وغيره ، وإن قيد بقرينة كالتحرير تخصص لأجل القرينة بالقن دون غيره ، فلما أطلق ذكر الرقاب في الصدقة وجب أن يحمل على عمومه ولا يجري مجرى ما خص في الكفارة بقرينة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم من الآية بأن الله تعالى أضاف الصدقات إلى أهل [ ص: 505 ] السهمان بلام التمليك إلا الرقاب فهو أنه قد قال مثل ذلك في الغزاة وبني السبيل فقال : وفي سبيل الله وابن السبيل لا يقتضي ذلك ألا يدفع إليهم تمليكا ، كذلك الرقاب .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم فيها بأن المكاتبين من جملة الغارمين فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم غير الغارمين : لأن ديونهم غير مستقرة وديون الغارمين مستقرة .

                                                                                                                                            والثاني : أنهم وإن تقاربوا في المعنى فإنه يستفاد بذكرهم ألا يقتصر على الغارمين لو لم يذكروا وعليهم دون الغارمين لأنهم منهم ، وجرى ذلك مجرى ذكر الفقراء والمساكين ، وإن كانوا متقاربين يستغنى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر : لئلا يقتصر على أحدهما حتى يلزم الجمع بينهما .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بالكفارات فهو أن المأمور بإخراجه في الكفارات هو العتق ، لذلك لو أعتق رقبة يملكها أجزأه ، والمأمور بإخراجه في الصدقات هو المال ، ولذلك لو أعتق رقبة يملكها لم يجزه فافترقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية